العالم
خلصت الكثير من التحليلات الغربية للأحداث التى شهدتها روسيا في نهاية الأسبوع الماضى، إلى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أظهر ضعفه بالسماح لرئيس فاجنر يفغينى بريغوجين وقادة مجموعة فاجنر الآخرين بالمغادرة بسلام إلى بيلاروسيا، والانضمام إلى الجيش الروسى أو التقاعد.
بالطبع، إذا كان بوتين قد سحق التمرد بالقوة وأعدم قادته، لكان المعلقون قد استخدموا هذا كدليل إضافي على وحشيته، وربما أيضا على الوحشية والعنف للتقاليد الوطنية الروسية.
تعامل جيد
هذه الاستنتاجات مصبوغة بكره مفهوم للزعيم الروسى، وهى لا تشكل تحليلا رصينا وموضوعيا، ففى الواقع، على الرغم من أن بوتين كان مسئولا بشكل واضح عن خلق الخلفية لهذه الفوضى، يجب أن نفكر فى إمكانية أنه تعامل مع الأمور بشكل جيد وبدهاء فى عطلة نهاية الأسبوع، فخلال خطابه صباح السبت الماضي، أظهر العزم والتصميم والعناد، حيث أوضح بوتين أنه ليس لديه نية للاستسلام لمطالب بريغوجين، وأنه إذا استمر هو وزعماء فاجنر الآخرون فى تمردهم، فسيتم اتهامهم بالخيانة (وربما إعدامهم ضمنيا).
وذكر الكاتب أناتول ليفين، خلال مقاله بصحيفة “الجارديان”، أنه نظرا لأنه سرعان ما أصبح واضحا أنه لن يكون هناك تمرد لدعم فاجنر داخل الجيش النظامى، واجه بريغوجين اختيار هجوم على موسكو كان من شبه المؤكد أنه سيؤدى إلى ذبح رجاله وموته، أو استسلام بشروط، وفى ظل هذه الظروف، لم يكن لدى بوتين ما يكسبه من السعي للانتقام العنيف، والذى كان من شأنه أن يقتل أعدادا كبيرة من الروس ويقوض الحرب الروسية فى أوكرانيا. كان لديه كل شيء ليكسبه من خلال إظهار الشهامة “لقد فاز بعد كل شيء”.
أبطال روس
بالإضافة إلى ذلك، كان السبب الرئيسى وراء عدم تحرك بوتين فى وقت أقرب لقمع بريغوزين وإنهاء نزاعه مع القيادة العليا الروسية هو أنه على مدار أكثر من عام، كانت الدعاية المحلية الروسية قد شكلت صورة لمقاتلي فاجنر كأبطال عسكريين روس.. ما كان لقتلهم أن يسير على ما يرام مع الروس العاديين.
وبحسب “الجارديان” هناك درسان أوسع نطاقا مما حدث فى روسيا فى نهاية الأسبوع الماضى. الأول يتعلق بالتاريخ الطويل للانقلابات وأشباه الانقلابات وتمردات النخبة فى جميع أنحاء العالم. نسبة كبيرة جدا من هؤلاء لم تكن تهدف إلى الإطاحة بالحاكم والاستيلاء على السلطة العليا، كما أنها لم تؤد إلى معارك. بدلا من ذلك، كانت مظاهرات مسلحة قام بها نظير محلى لبارونات العصور الوسطى، بهدف الضغط على الملك لـ “معالجة المظالم”، وطرد البارونات المنافسين من المحكمة ومنح بعض المناصب المربحة لزعماء المتمردين.
ويتعلق الدرس الآخر بالمنع العميق فى المجتمع الروسى من إراقة الجنود الروس لدماء الروس الآخرين، والذى يرتبط بدوره بمخاوف عميقة من اندلاع حرب أهلية وفوضى. هذه لها جذور قديمة فى كوابيس النخبة حول “الثورات الروسية، التى لا معنى لها ولا ترحم”، كما سماها بوشكين. بل أكثر من ذلك فى الذكريات الموروثة عن الآثار المروعة للثورة البلشفية عام ١٩١٧، وفى الفوضى والبؤس الاقتصادى فى التسعينيات التى أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتى.
بوتين وخطاب السبت
لذلك فإن كلمات بوتين حول عام ١٩١٧ فى خطابه يوم السبت الماضي لها صدى هائل بالنسبة للعديد من الروس: “تم توجيه ضربة كهذه لروسيا فى عام ١٩١٧، عندما كانت الدولة تقاتل فى الحرب العالمية الأولى. لكن الانتصار سرق منه: المؤامرات والمشاجرات والتسييس وراء ظهور الجيش والأمة تحولت إلى أكبر اضطرابات، وتدمير الجيش وانهيار الدولة، وفقدان مناطق شاسعة، مما أدى فى النهاية إلى مأساة الحرب الأهلية… لن نسمح بحدوث ذلك مرة أخرى “.
ربما يكون اللغز الأكبر حول سقوط الاتحاد السوفيتى هو لماذا لم يقاتل الجيش السوفيتى بقوة أكبر وقتل المزيد من الناس فى محاولة للحفاظ على تماسكه، ولماذا تم رفض محاولة الانقلاب ضد ميخائيل جورباتشوف فى أغسطس ١٩٩١ من قبل الغالبية. من القوات المسلحة وبالتالى انهارت بسرعة. توفر هذه الجوانب من التاريخ الروسى جزءا من الإجابة عن هذا اللغز.
وأكدت أحداث نهاية هذا الأسبوع أن مصير نظام بوتين سيتقرر فى المقام الأول ليس من خلال المؤامرات داخل النخبة الروسية، ولكن من خلال ما يحدث فى ساحة المعركة فى أوكرانيا، إذا تمكن الجيش الروسى من الحفاظ على خطه الحالى، فسوف يعلن بوتين النصر على ما صوره بنجاح للشعب الروسى على أنه محاولة غربية موحدة لتدمير روسيا.
فى حالة اختراق الأوكرانيين، فقد يضطر بوتين إلى الاستقالة، لكنه قد يتصاعد أيضا نحو حرب نووية. ربما يكون أخطر تأثيرا للضربة التى تعرضت لها هيبة بوتين من ثورة فاجنر هو أنه حتى بدون انتصار أوكرانى، سيشعر بأنه مضطر لاستعادة صورته عن طريق الانتقام مباشرة من الغرب لدعمه لأوكرانيا. فى هذه الحالة، فإن المخاطر التى يتعرض لها نظام بوتين سوف تتفوق عليها تلك التى تهدد البشرية بشكل عام.
أناتول ليفين هو مدير برنامج أوراسيا فى معهد كوينسى لفنون الحكم المسئول ومؤلف كتب من بينها أوكرانيا وروسيا: تنافس أخوي.