على مدى تاريخ مصر الحديث لم تأخذ قضية جنائية حجم الاهتمام الرسمي والشعبي، مثل الذي حظيت به قضية ريا وسكينة عليّ همام، وبعد انقضاء مائة عام على إعدامهما بالتمام والكمال (21 ديسمبر 1921)، لا تزال القضية تشغل كثيرين، إذ يُثار الجدل حولهما.
وقبل 6 سنوات ادّعى سيناريست أنه تحقق من القضية، وتوصل إلى براءة ريّا وسكينة، كما أنه يعمل على إنتاج وثائقي (لم يبث بعد) يتناول سردية البراءة.
والتي تقول إن ريّا وسكينة تعاونتا مع الجهاز السري لثورة 1919 لمواجهة الاحتلال الإنجليزي الذي لفق لهما القضية حتى يتخلص منهما.
في مقابل الدعوة لبراءة ريا وسكينة، ثمة رواية شائعة اختلطت فيها الحقيقة بالأساطير، صورت الشقيقتين بأنهما مجرمتان دمويتان.
وقد ارتبط اسمهما بكل شر، وأصبح مرجعا لكل جريمة، وتبنّت الأعمال الفنية من سينما ودراما ومسرح هذه الرواية الشيطانية عنهما.
ضحايا
بين هذا وذاك تبرز رواية رصينة تنظر للحكاية الأشهر كونها جزء من نسيج اجتماعي، لا تنفصل عنه البتة، صاحب هذه الرواية الكاتب المصري الراحل صلاح عيسى، مؤلف كتاب “رجال ريّا وسكينة” الذي قدم فيه سيرة اجتماعية عن الشقيقتين من واقع ملف القضية، التي تشمل تحقيقات النيابة وجلسات المحاكمة، وكذلك تحريات البوليس.
إلى جانب ذلك أصبغ عيسى على روايته روح المجتمع الذي نبتت فيه بذور القتل، فلم يبرؤهما، لكنه نظر إلى القصّة من زاوية أكثر واقعية بعيدا عن المغالاة في شيطنة ريّا وسكينة، أو التصالح مع كونهما أجرمتا في حق المجتمع، لكنه حاول تقديم الحقيقة بتجرد.
واعتبر عيسى ريّا وسكينة من ضحايا الظروف القاسية التي يعانيها البشر، فكانت نشأتهما في قرية الكلح القريبة من أسوان جنوبي مصر، ثم هجرتهما إلى الشمال، وحياة الكد والحرمان التي عاشتاها،ثم استقر بهما المقام في غرف مظلمة تفوح منها رائحة الفقر بمدينة الإسكندرية الساحلية.
مبالغات
يرى الكاتب الراحل أن هذه الحياة كانت دافع المرأتين إلى إعمال غير أخلاقية ثم السرقة والقتل، لكنه حاول أن يفند المبالغات التي ساقتها الروايات المغلوطة التي نُقلت عن ريّا وسكينة، وأصبحت في منزلة الحقائق والمسلمات.
من بين تلك المبالغات ما نقلته الكاتبة الراحلة لطيفة الزيات عن ريّا وسكينة، حيث قالت إن والدتها روّت لها طقوس القتل التي اتبعتها الشقيقتان.
إذ كانت تبدأ باختيار الضحية، واصطحابها إلى البيت، ثم خنقها، وتمزيق جثتها إلى أجزاء، وحرق الأجزاء في الفرن، إلى جانب أصوات الدفوف التي كانت تغطي على أصوات الاستغاثة.
ويقول “عيسى” من واقع أوراق القضية، إذ لم يعثر الطبيبان الشرعيان “سيدني سميث” و”عبد الحميد عمار” اللذان قاما بفحص جثث الضحايا على أية كسور في العظام اللامية، وهي عظام الرقبة التي يدل كسرها على أن الخنق هو سبب الوفاة، ورجحا أن تكون عمليات القتل تمت عن طريق كتم الأنفاس.
إلى جانب ذلك لم يجد الطبيبان أي دليل على تمزيق الجثث التي عثر على هياكلها العظمية في حالة سليمة تماما، أما رواية الحرق فلم يدعمها واقع حياة ريا وسكينة كانت أفقر من أن يمتلكا فرن لطهي الطعام فيه.
وفي محاولة لتفسير سبب محاولة البعض إلصاق صفة البطولة على بـ “ريّا” و”سكينة”، يقول عيسى إن هذا المسلك لم يختلف عما حدث في كثير من الروايات الأسطورية العربية والأجنبية، ومن أشهرها قصة أدهم الشرقاوي، الذي وضعته السيرة الشعبية في مكانة الأبطال والمقاومين، على عكس حقيقته.
هذا النموذج أيضا شبيه بقصة روبن هود الذي كان يختبئ في غابة “شيرودد” الإنجليزية، ليقطع الطريق وينهب أموال الأثرياء ويهبها للفقراء، وهذه القصص مقاربة لما أراد له البعض أن تصبح عليه قصّة ريّا وسكينة.
كما يستدعي صلاح عيسى في كتابه مشهد إعدام ريّا وسكينة يوم 21 ديسمبر عام 1921، خارج سجن الحضرة بمدينة الإسكندرية؛ حيث اجتمع النسوة من المناطق الشعبية، وظللن يرقصن ويغنين أغنية مطلعها يقول: “خمارة يا أم بابين.. روحت السكارى فين؟”، وبعد التأكد من إعدام الشقيقتين راح النسوة يهتفن: “عاش اللي شنق “ريّا”.. عاش اللي شنق “سكينة”.