لستة أيام، غطّيت الأحداث التي وقعت بعد مقتل الفتى نائل. تنقلت بين أكثر من منطقة. نانتير، وكولومب، ولاي ليه روز، وأوبرفيليه، وشانزيليزيه. التقيت جدته، ووالدته، والكثير من أصدقائه.
أولاً، عائلته كانت في مرمى الاتهامات بالتحريض على العنف، من قبل سياسيين ووسائل إعلام اليمين المتطرف. التقيت والدته في مراسم التشييع، وكانت لا تزال ترفض الحديث إلى وسائل الإعلام ولا تتابع ما يحدث. فهي تعيش في عالم آخر من الحزن والخسارة. والفقد الذي تعيشه لا يقارن، بالنسبة إليها، بكل الخراب والخسائر المادية التي أصابت آخرين. جدته ناديا، وفي مقابلة أجريتها معها لـ”العربية”، نددت بالعنف عندما كان محدوداً جداً وفي بدايته.
الفتى القتيل نائل
من الاحتجاجات في فرنسا بعد مقتل نائل (فرانس برس)
جدة نائل
من تظاهرات فرنسا بعد مقتل الشاب نائل – فرانس برس
خلال المقابلة التي أجريتها مع السيدة، وكانت لا تقوى على السير بعد قيام الشرطة بتفريق مسيرة سلمية ضخمة شارك بها الآلاف من كل مناطق العاصمة وضواحيها، أوقفت المقابلة فجأة عندما اقتربت المواجهات منا. بعض الأشخاص حاولوا رشق إحدى سلسلة محال تجارية مشهورة بالحجارة، فتركتني وزميلي المصور ووقفت أمامه مطالبة إياهم بالتراجع. كانت تصيح بهم “نحن لسنا مخربين، لا تجعلوهم يقولون إن العرب لصوص”.
مشكلة اندماج؟
في نانتير، حيث انتفضت الضاحية غضباً بعد مقتل نائل، لم تسجّل حالات سرقة واقتحام للمحال التجارية فعلياً. المواجهات تركّزت في حي بابلو بيكاسو، حيث ولد نائل وعاش. وفي ساعات الليل، كانت تدور مواجهات، هي أعنف ما غطيته في فرنسا. معظم المشاركين بها كانوا من المراهقين، كثير منهم يعرف نائل جيداً، وفي ساعات النهار كانوا يأتون إلى مكان مقتله في ساحة نيلسون مانديلا ليضعوا الزهور، أو يكتبوا عبارات كثيرة، منها: كم من نائل لم يتم تصويره؟ فليكن القبر حنوناً عليك، عدم الامتثال لأمر الشرطة بالتوقف لا يجب أن يكون إذناً بالقتل.
تلك العبارات العميقة في دلالاتها الاجتماعية والسياسية كتبها مراهقون، واتهامهم بأنهم من متعاطي المخدرات والمخربين، هو اتهام غير دقيق ويحابي قصة ينسجها فاشيون ويمينيون ومتطرفون عنهم وعن أحيائهم يومياً.
هؤلاء خاضوا اشتباكات ضد الشرطة لخمسة أيام متواصلة في الليل داخل حي صغير بالمرفقعات النارية مقابل عشرات قنابل الغاز المسيل للدموع. كانوا محاصرين من قبل مئات عناصر الشرطة والسيارات المصفحة التي حاولت اقتحام الحي من دون أن تنجح، وكانت أعدادهم بضع عشرات، غير مسلحين، وليسوا تحت تأثير الكحول ولا المخدرات. وبالمناسبة هذا الاتهام الذي ساقه اليمين المتطرف وبعض وسائل إعلامه ضد نائل، قبل أن يدحضه الفحص الطبي له ولصديقيه اللذين تواجدا معه في السيارة لحظة مقتله.
اتهام هؤلاء بأنهم يعانون من مشكلة اندماج في المجتمع الفرنسي ليس دقيقاً، لأنهم جزء منه ثقافياً ومهنياً وسياسياً، وهؤلاء لا ينطبق عليهم تصنيف “مهاجرين” لأنهم أبناء فرنسا، من آباء وأمهات ولدوا في فرنسا ولا يحملون جنسية أخرى سوى جنسيتها، والكثير منهم لا يتحدث أي لغة إلا اللغة الفرنسية.
غياب التنمية
بيد أن بعض المحللين على شاشات التلفزة، كانوا وفي سياق تحليلهم لما يحدث، يدحضون الفكرة القائلة إن هذه الأحياء فقيرة، ويتحدثون عن تنمية وأموال تغدقها الدولة عليها. إلا أن هذه الفكرة ليست الحقيقة الكاملة. فهذه الأحياء لا يتحدث عنها أحد إلا عند المشاكل، وغالباً بقالب نمطي مليء بالمغالطات.
منطقة سان دوني على سبيل المثال، أفقر مناطق فرنسا وأكثرها شباباً، قدمت خلال السنوات العشر الأخيرة موارد جديدة للدولة أكثر من أي منطقة أخرى في فرنسا. يقولون أحياناً إن المخدرات هي مصدر دخل هذه الأحياء، وهذا الأمر خاطئ تماماً.
ما تقدمه المناطق الفقيرة، أو الشعبية، أو “الأحياء الحساسة” بحسب ما يعشق الإعلام الفرنسي والسياسيون تسميتها، لخزينة الدولة أكثر بكثير مما تحصل عليه. ترتيب ضاحية سان دوني في تمويل نظام المساعدات الاجتماعية في فرنسا هو الثامن على المستوى الوطني، لكن سكانها يتلقون المساعدات الاجتماعية أقل من غيرهم، وذلك لأنها مناطق وأحياء ديناميكية اقتصادياً. لكن برغم ذلك، فهي مجتمعات حضرية محرومة تعاني من نقص في الاستثمار قدر عام 2020 بمليار يورو.
في دراسة أجراها معهد Montaigne نشرت عام 2022 بعنوان “المستقبل يُصنع في الأحياء الفقيرة”، وأشرف عليها الباحث حكيم القروي الذي يستشيره ماكرون بشؤون الضواحي، خلصت الدراسة إلى أنه في فرنسا هناك 1514 منطقة ذات أولوية للسياسات الحضرية (ضواحي فقيرة). يبلغ عدد سكان هذه المناطق نحو 5.5 مليون نسمة، وهم يساهمون في تمويل نظام التضامن الوطني الاجتماعي الذي يستفيد منه كل الفرنسيين والمقيمين أكثر بكثير مما تستفيد مناطقهم منه. هذه المناطق لديها القليل من كل شيء: عدد أقل من المعلمين وأقل خبرة، وعدد أقل من ضباط الشرطة وأقل خبرة، وعدد أقل من القضاة وأقل خبرة، وعدد أقل من المرافق الرياضية والثقافية.. إلخ.
ماذا تقول الأرقام؟
40 في المئة من سكان هذه المناطق ليس لديهم حضانة لأطفالهم. 9 في المئة من هؤلاء فقط يحصلون على رعاية فردية أو جماعية لأطفالهم مقارنة مع 68 في المئة من أطفال العائلات الغنية في مناطق أخرى. أيضاً في هذه المناطق، كل 100 ألف من سكانها لديهم 30.8 اختصاصي طبي، مقارنة مع 67.1 لكل 100 ألف على مستوى العاصمة. 160 من المناطق المحرومة ليس لديهم خدمة نقل.
غياب العادلة الاجتماعية، وشيطنة سكان هذه المناطق والحرص دوماً على تصويرهم أنهم مجموعة من الوحوش ومتعاطي المخدرات واستسهال توقيفهم وتفتيشهم من قبل الشرطة، وإن كان ليس مبرراً لحدوث تجاوزات واعتداء على آخرين، لكنه ليس مركز النقاش والمحور الأساسي لفتح نقاش حول ما حدث. هناك جريمة قتل لفتى صغير، لديه سجل جنائي نظيف، مثل غالبية المراهقين الساحقة الذين اعتقلوا من بين أكثر من 3400 شخص خلال الأيام الماضية في فرنسا، وهي مسألة أشار إليها وزير الداخلية عندما قال إنهم “أشخاص غير معروفين بسوابق أمنية أو جرمية”.
التهميش والظلم
محور النقاش يجب أن يكون الظلم الاجتماعي والسياسي الذي تعرّض له هؤلاء لعقود، وهم ليسوا أول جماعة مارست عنفاً ولن تكون الأخيرة بقدر ما أنهم ليسوا أول جماعة تعرضت للظلم والتهميش ولن تكون الأخيرة كذلك. فجماعة السترات الصفر، والمحتجون على رفع سن التقاعد، مارسوا عنفاً مماثلاً، أحرقوا سيارات في قلب باريس، وحطّموا مصارف ومتاجر ماركات عالمية ووكالات سيارات، وهم ليسوا سكان مناطق فقيرة بالضرورة وليسوا أبناء أو أحفاد مهاجرين، مثلهم مثل جماعات الدفاع عن البيئة التي حطمت مقتنيات أثرية ولوحات فنية تقدر قيمتها بملايين اليوروهات.
يبقى في النهاية أن انتقاد هؤلاء، أو عدم الإعجاب بهم، أو الاشمئزاز منهم رأي شخصي لأصحابه، لكن وضعهم كلهم في كتلة واحدة وإصدار أحكام ضدهم، هو أمر فيه من التجني الكثير، ويبرئ ممارسات خطيرة يقوم بها آخرون سواء أولئك الذين يتمتعون بسلطة أعطتهم إياها الدولة، مثل بعض عناصر الشرطة الذين ينظر إليهم من قبل سكان هذه المناطق على أنهم شرطة الوزير أو الرئيس، أو آخرين مثل سياسيي اليمين المتطرف، وأحدهم جمع أكثر من مليون يورو كمكافأة للشرطي الذي قتل نائل.. وكأنه يريد القول، اقتل عربياً واحصل على مليون يورو.