– ( نحن لا نحارب أوكرانيا ياسيدى ، إنما نحن نطبق الديموقراطية هناك تماماً كما طبقتموها أنتم من قبل فى أفغانستان والعراق وسوريا ، وتحاولون تطبيقها الآن فى ليبيا ) ..!!
.. هكذا كان رد وزير الخارجية الروسي ( سيرغي لاڤروف ) على صحافيين من وكالتى أخبار ( سي إن إن ) الامريكية و (بي بي سي) البريطانية فى المؤتمر الصحفى الذى أقامه إفتراضياً منذ اليومين ومع بداية العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا .
.. تبدأ القصة فى ( عام ١٩٤٩ ) فى أعقاب إنتهاء الحرب العالمية الثانية وتحديداً حينما دعت كل من ( آيسلندا و الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ) إلى تأسيس ما سمى حينها ب( حلف شمال الأطلسي ) والملقب ب (NATO) ودعت إليه كل دول أوروبا بعد أن أذاقتهم الحرب جميعهم مرارة القتال منفردين وحلفاء ، فى وجه النازية الهتلرية والسوفيتيه الإستالينية ، وما حل بالكرة الأرضية حينها من خراب ، ثم لخلق كياناً عسكرياً غربياً موازياً للإتحاد السوفيتي الذى ولد فى ( عام ١٩٢٢ ) وعلى حدوده الغربيه مباشرة ، لينضم للحلف فى ذات العام تسع دول أوروبية ، ليصبح توسع الحلف فيما بعد وتوالى إنضمام دول أوروبا وشرقها ضرورة رئيسية لخلق توازناً من القوى أمام الإتحاد السوفيتي الذى ينذر بتوتر الأوضاع فى العالم حينها ، ومع إنضمام مقدونيا الشمالية كآخر دول أوروبا فى ( عام ٢٠٢٠ ) يصل قوام الحلف اليوم إلى (عدد ٣٠ دولة)
.. وخلال فترات توسع الإتحاد السوفيتي المتوالية وتزايد أعداد الدول المنضمة إليه ( ١٩٢٢-١٩٢٧ ) _ ( ١٩٢٧-١٩٥٣ ) _ ( ١٩٥٣-١٩٩١ ) وصولاً إلى (عدد ١٥ دولة ) وحتى تفككه فى ( عام ١٩٩١ ) توالت بالتبعية أربع فترات توسع لحلف الناتو نفسه ( ١٩٥٢ – ١٩٨٢ ) _ ( ١٩٩٩ ) _ ( ٢٠٠٤-٢٠٠٩ ) _ ( ٢٠١٧-٢٠٢٠ ) كان الإتحاد السوفيتى حينها يبدى دائماً الكثير من الإعتراض على توسع الحلف وبالأخص إذا كان الإنضمام والتوسع شرقاً فى إتجاه الدول الموجودة على حدوده الغربية مثل ( أوكرانيا وبيلاروسيا ) حيث تنتهى الحدود الشرقية لأوروبا فى دولتى ( بولندا ورومانيا ) .
.. بعد تفكك الإتحاد السوفيتي فى ( عام ١٩٩١ ) بدأت بعض دول الإتحاد السوفيتي السابق محاولات الإنضمام لحلف الناتو مثل ( ليتوانيا – ستونيا – لاتفيا ) والتى كانت من قبل ضمن دول الإتحاد وتقع على حدوده مع أوروبا ، ولكن ذلك الإنضمام لم يكن ليقلق روسيا آنذاك لكون تلك الدول ليست ذات عمق جغرافي إستراتيجى لأوروبا ، فهى دول تحتضنها روسيا من شرقها ويحدها بحر البلطيق من غربها والذى تسيطر عليه البحرية الروسية أيما سيطرة ، وكان التعويل الرئيسى على دولتى ( بيلا روسيا – أوكرانيا ) فهما الممر البرى الوحيد لأوروبا وحلف الناتو فى إتجاه روسيا ، ولكن السياسة الاستباقية لروسيا هى دوما مميزها الرئيسى فى العمليات التفاوضية أو العسكرية على حدٍ سواء ، فقد كانت تعترض دوماً على توسع الحلف وفى كل مرحلة من مراحل توسعه شرقاً ، وتبدى إستشعاراً للخطر من ذلك التوسع وبالأخص فى ( عام ١٩٩٩ ) حينما إنضمت دول ( رومانيا – التشيك – المجر ) إلى الحلف وهم الأقرب جغرافياً لروسيا من ناحية الغرب خلف ( أوكرانيا وبيلاروسيا ) ثم إعتراضها فى ( عام ٢٠٠٩ ) حينما إنضمت دول الشمال الغربى لحدودها (لتوانيا – استونيا – لاتفيا ) ثم إعتراضها الأخير ( عام ٢٠١٤ ) على تردد مزاعم إنضمام ( أوكرانيا ) والذى أعقبته بضم (جزيرة القرم) كترجمة مباشرة على سنوات الإعتراض تلك ، ودقاً لجرس إنذار للحلف وتحذيراً من مغبة إنضمام ( أوكرانيا ) ثم لخلق نطاق أمنى جغرافي إستراتيجى لها فى البحر الأسود جنوب (أوكرانيا) حال إنضمامها فعلياً إلى الحلف ، باعتبار جزيرة ( القرم ) أرضاً حيويةً إستراتيجيةً فى البحر الأسود تؤمن الحدود الروسية من إتجاه الجنوب الغربي الملاصق ل( أوكرانيا ).
.. ليتردد من جديد خلال الأسابيع الماضية وعن طريق الإعلام الأمريكي ومعظم دول أوروبا تتقدمهم إنجلترا رغبة الدولة الأوكرانية فى الإنضمام إلى حلف الناتو ، لتثبت أمريكا وأوروبا أنها رغبة أوكرانية بحتة ، متجردة من أى دفع أو إغراءات ، نافين عن أنفسهم اى إغواء أو دعم لذلك الإنضمام ، ولكن الدب الروسى دائماً ما يعلم ماهية المخطط ويتوقعه وجاهز للتعامل معه ، فيبدأ ( بوتين ) ووزير خارجيته مباحثاتهما ومحارواتهما مع نظراءهم الأمريكيين والأوروبيين موضحين إستحالة هذا الإنضمام لخطورته على روسيا ، مذكراً الولايات المتحدة الأمريكية بأزمة الصواريخ النووية الروسية فى كوبا ( عام ١٩٦٢ ) حينما أراد ( خورتشوف ) دعم كوبا وزعيمها الإشتراكى الصديق ( فيديل كاسترو ) ضد الرفض الأمريكي ( الكينيدى ) لذلك الإستقلال ووصفه له بالإنقلاب ، ورداً على وضع أمريكا صورايخها النووية فى تركيا وإيطاليا ، ومع المكالمات الهاتفية المترددة آنذاك بين معسكرى القوى العالميين وافق الإتحاد السوفيتي حينها على سحب تلك الصورايخ وعودتها للأراضى الروسية وتفهم خوف أمريكا من هكذا خطوة على حدودها الجنوبية , ولكن ( بايدن ) ليس ب ( كينيدي ) ولكنه خليط من ( بوش ) و ( أوباما ) فى نسخة معدلة راغبة دوماً فى إفتعال القلاقل وإشعال الأحداث فى منطقة الشرق الأوسط تحديداً ، وإستنزاف دول المنطقة ، لتستمر المباحثات بين الطرفين ويلتحق بها الأطراف الأوروبيون .
.. ويعود ( بوتين ) لتذكيرهم بمعاهدة ( مينسك ) التى تمت فى العاصمة البيلاروسية ( عام ٢٠١٤ ) لإنهاء النزاع الداخلى المسلح بين ( قادة الاقاليم الشرقية المنفصلة ) من جهة و( دولة أوكرانيا ) من جهة أخرى وبرعاية ( روسيا ومنظمة التعاون والأمن الوروبى ) والتى ضمنت فيها روسيا أمام الإتحاد الأوروبي رعاية إستقرار الأوضاع فى ( أوكرانيا ) أثناء الحرب الأهلية الداخلية بين الحكومة وإقليميها الإنفصاليين فى الشرق ( دونيتسك ولوجانسيك ) على أن تحفظ ( أوكرانيا ) – وبرعاية اوروبية – أمن الإقليمين وحقوق مواطنيهم الذين هم من الغالبية الروس والموالين لها ويتحدثون لغتها الروسية ، ويذكرهم أيضاً بأن هذة المعاهدة لم يلتزم بها إلا الجانب الروسى وأن مواطنين روسيا فى الإقليمين يعانون من الإضطهاد الأوكرانى والتمييز دون تحرك غربى أو مبالاة ، وبمهارة سياسة التصعيد المعهودة يلوح ( بوتين ) للغرب بورقة الإعتراف بإستقلال الإقليمين كنوع من الضغط لدفع أمريكا وأوروبا للعدول عن فكرة إنضمام أوكرانيا للحلف ، ولكن التعنت الأمريكى والرغبة الدائمة فى إشعال الشرق الأوسط ، وفنها فى إدارة الحروب بالوكالة وقفت حائلاً دون حصول ( بوتين ) على رد مطمئن ، مما دفعه لبدء العملية العسكرية على ( أوكرانيا ) بدعوى صريحة لتحقيق الديمقراطية ونصرة مواطنيه المضطهدين هناك ، ودعوى ضمنيو برفض إنضمام ( أوكرانيا ) للناتو ، لتهب أمريكا وأوروبا ومؤيديهم رافضين ذلك التدخل بكل الصور وموقعين حصاراً جوياً لطائراته ومطاراته وكثير من العقوبات الإقتصادية الزائفة وبعض المعاملات البنكية الهزيلة على كيانات روسية وعلى شخص بوتين نفسه ووزير خارجيته وبعض نواب مجالسه ، لتنضم ( بيلاروسيا ) و ( الشيشان ) وجمهوريتى ( دونيتسك ولوجانسيك ) الجديدتين إلى جانب زعيمهم الروسى فى تلك الحرب عسكرياً ، بينما تؤيده دول ، وتطمئنه أخرى ، وتشجبه وتدينه أخريات .
.. ويستفيق العالم من ثبات رتابة الصراعات السياسية وحرب التصريحات اليومية على بدء مسرحية حرب مصغرة غير متكافئة تمثل فيها ( أوكرانيا ) جانب الضحية التى تخلى عنها حلفاؤها وباعها أصدقاءها ورمت بها أمريكا وأوروبا قرباناً لإله حرب إستنزاف وإرهاق للجانب الروسى مكتفية بدعمها – حفاظاً على ماء الوجه – مالياً وسيبرانياً وبعض التسليح الخفيف ، وكبالونة إختبار لمن ( مع ) ومن ( ضد ) من دول العالم ، يشاركها دور البطولة ( روسيا العظمى ) التى تمثل القلب الطيب الباحث عن أمن مواطنيه ومؤيديه وداعميه فى ( أوكرانيا ) بما لديه من عتاد عسكرى يصعب التصدى له أوروبياً وليس أوكرانياً فقط ، ووريقات الغاز والبترول التى تحيا بهما أوروبا بالمعنى الحرفي ، لتعلن توغلها فى الأراضى الأوكرانية وإستيلاءها على مدينة المفاعل النووى ( تشيرنوبل ) كنقطة مفصلية مهمة فى صراع التفاوض القادم ، معلنة عدم رغبتها فى إحتلال البلاد وانما تغيير النظام الحاكم الذى وصفته بالإستبدادى ، لتنعم بتأييد صريح أحياناً وضمنى أحياناً اخرى من دول الجوار القوية عسكرياً وإقتصادياً والقادرة على تعويضها عن تمثيلية العقوبات والحصار الاقتصادى الواهى الذى فرضته عليه أمريكا والغرب – أيضاً – حفاظاً على ماء الوجه ، يأخذ فى هذة المسرحية مجلس الأمن والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية دور الكومبارس بجلساتهم الباردة وإعلاناتهم المضحكة ذات الألفاظ المنتقاه بحرص شديد بقصد عدم الاهانةعل ( بوتين ) أو إغضابه ، تقوم فيها دول العالم الثالث وبعض دول أوروبا المسالمة بدور الجمهور .
.. وما علينا إلا أن نشاهد ، ونتعلم وننتظر نهاية العرض الذى سيكون في نهايته أكثر من فائز وبنسب متفاوتة ، و خاسر واحد فقط وهو – بالقطع – الشعب الأوكراني .
..