اتجاهات المساءلة| إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بطلب من جنوب أفريقيا.. اتهام دولة الاحتلال بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة
خسرت إسرائيل التأييد العالمى لحربها العدوانية على غزة، فى ظل المجازر التى يرتكبها جيش الاحتلال فى حق المدنيين من النساء والأطفال، واتهامات بارتكاب جرائم إبادة يشهد عليها الضمير الإنساني، وكتبت جنوب إفريقيا فصلًا جديدًا من قطع العلاقات مع دولة الاحتلال. كما قدمت جنوب أفريقيا طلبا إلى محكمة العدل الدولية لاتخاذ إجراءات ضد إسرائيل بسبب العمليات العسكرية التى تشنها فى قطاع غزة، إلا أن هذا التحرك يواجه تحديات عدة قد تمنع من تحقيق أهدافه. وقد جاءت هذه الخطوة بعدما استدعت جميع دبلوماسييها فى إسرائيل للتشاور، وسط استمرار الحرب بين إسرائيل وحركة حماس بقطاع غزة.
وتعتبر جنوب أفريقيا من أبرز داعمي القضية الفلسطينية، ووجهت مرارًا انتقادات شديدة إلى القصف الإسرائيلى المدمر فى قطاع غزة منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس فى أكتوبر ٢٠٢٣. كما صوت برلمان جنوب أفريقيا على قرار غير ملزم لإغلاق السفارة الإسرائيلية فى البلاد وقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب حتى توافق إسرائيل على وقف إطلاق النار والمفاوضات. وتدعم جنوب أفريقيا إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضى التى تحتلها إسرائيل منذ عقود، وتشبه محنة الفلسطينيين بمعاناة السود الذين كانوا يشكلون الغالبية خلال حقبة الفصل العنصرى القمعية، وهى مقارنة تنفيها إسرائيل بشدة.
وبحسب بيان لمحكمة العدل الدولية فقد اتهمت جنوب أفريقيا إسرائيل بارتكاب ما وصفته بأنه “أعمال إبادة ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة”، موضحة أن “أفعال إسرائيل مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة لتدمير فلسطينيي غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الأوسع أى الفلسطينيين”. وتشمل الأفعال “قتل الفلسطينيين فى غزة، وإلحاق الأذى الجسدى والنفسى بهم، وفرض ظروف معيشية عليهم من شأنها أن تؤدى إلى تدميرهم جسديا”، بحسب جنوب أفريقيا. وأضافت جنوب أفريقيا “تعزى جميع هذه الأفعال إلى إسرائيل، التى فشلت فى منع الإبادة الجماعية وترتكب إبادة جماعية فى انتهاك واضح لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. ورأت أن إسرائيل، بما فى ذلك كبار مسئوليها، الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع، تعبر عن نية الإبادة الجماعية.
على الجانب الآخر، وصفت إسرائيل طلب جنوب أفريقيا بأنه لا يستند إلى أى أساس قانوني، متهمة بريتوريا بالتعاون مع ما سمتها “جماعة إرهابية تدعو لتدمير إسرائيل” فى إشارة إلى حركة حماس، وادعت أن إسرائيل تعمل على الحد من وقوع الضرر على المدنيين.
مسارات عديدة
تضطلع محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة بحل الصراعات بين الدول، كما أن محكمة العدل الدولية أصدرت سابقًا أحكامًا عدة لكن المشكلة تكمن فى غياب آلية فعلية لتنفيذ تلك الأحكام طالما تحظى إسرائيل بدعم أمريكى وغربى فى مثل هذه المواقف، كما أن رفع القضية فى حد ذاته ليس كافيًا طالما لم تتخذ الدول الكبرى مواقف مساندة لهذا التحرك، لأن التحرك أمام محكمة العدل لن يكون سوى محاولة إثبات الخطأ ولكن بلا عقاب.
وفى وقت سابق قال المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان إن المحكمة ستكثف جهودها للتحقيق فى ادعاءات ارتكاب جرائم حرب وقعت خلال هذا الصراع منذ هجمات ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، فيما لم يسمح لمحققى المحكمة بدخول قطاع غزة أو إسرائيل التى ليست لديها عضوية فى المحكمة الجنائية الدولية. كما أنه بعد رفع قضية بهذا الشكل يمكن لقاضى المحكمة إصدار أمر بالقبض على رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، هو والمسئولين معه. وفى هذه الحالة لا يستطيع نتنياهو أو الفريق التابع له الذهاب لأوروبا لأن الاتحاد الأوروبى كتلة واحدة، وسيتم توقيفه فى أى دولة من دول التكتل هو والمسئولين التابعين له.
هذا التحرك ليس جديدًا، حيث كان هناك تحرك فى عام ٢٠٠٢ ضد رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق آرييل شارون فى بلجيكا، وظل شارون يخشى التوجه لأوروبا مخافة أن يصدر أى قاضى حتى ولو كان قاضيًا صغيرًا حكمًا بالقبض عليه، وهو التحرك الذى كنت أتمنى أن نقوم به فى الوقت الحالى لا سيما فى ظل التعاطف العالمى مع قطاع غزة.
وتفصل محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة فى النزاعات بين الدول. وقراراتها نهائية غير قابلة للاستئناف لكن ليس لديها وسيلة لتنفيذها. وكانت المحكمة الجنائية الدولية، التى يقع مقرها أيضا فى لاهاي، قد تلقت طلبًا من جنوب إفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتى لإجراء تحقيق فى الوضع فى دولة فلسطين. كما فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقا فى عام ٢٠٢١ فى جرائم حرب محتملة فى الأراضى الفلسطينية، من بينها جرائم محتملة ارتكبتها القوات الإسرائيلية وحماس وفصائل فلسطينية مسلحة أخرى.
فى حين، قررت إسرائيل المثول أمام محكمة العدل الدولية فى لاهاي، للمطالبة برفض الدعوى المرفوعة عليها من جنوب أفريقيا، على خلفية جرائم الحرب التى ارتكبتها فى غزة. وأفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عبر موقعها الإلكترونى نقلًا عن مستشار الأمن القومى الإسرائيلي، تساحى هنغبي، أن الخطوة الإسرائيلية، تستهدف المطالبة برفض الطلب الجنوب أفريقى بإصدار أمر قضائى يطالبها بالتعليق الفورى لحربها على غزة.
اتجاهات المساءلة
طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين فى غزة “من أى ضرر جسيم إضافى وغير قابل للإصلاح” بموجب الاتفاقية ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة فى الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها. خاصة أن إسرائيل استهدفت المدنيين والفئات المحمية كالأطباء والصحفيين، وسلاح التجويع ومنع المساعدات واتباع سياسة التهجير القسرى بالإضافة إلى احتجاز الرهائن من المدنيين وجميعها أفعال لا تتفق مع قواعد القانون الدولي.
ومن المرجح أنه سيكون لحرب غزة وقع كبير على مسألة النظرة الدولية للقانون الدولى ومدى احترامه وانطباقه على الجميع، وقد توفر سوابق لانتهاكات بعضها لم يحدث بهذه الصورة المروعة من قبل، حيث بدأت تخرج بعض التقارير التى توثق الانتهاكات وتطالب بالمحاسبة. وقد قالت جنوب أفريقيا فى الطلب الذى قدمته إلى محكمة العدل الدولية، إلى إمكانية الاستدلال على تلك النية أن طبيعة العملية العسكرية الإسرائيلية فى غزة وسيرها، مع الأخذ فى الاعتبار على وجه الخصوص أن إسرائيل لم توفر أو تضمن الغذاء الأساسى والمياه والدواء والوقود والمأوى وغيرها من المساعدات الإنسانية لأفراد الشعب الفلسطينى المحاصرين والعالقين، ما يدفعهم إلى حافة المجاعة، كما توضح فى طلبها أنها لجأت إلى المحكمة لإثبات مسئولية إسرائيل عن الانتهاكات لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وكذلك لضمان الحماية العاجلة والأكثر اكتمالًا للفلسطينيين.
هناك جرائم مروعة ذات عواقب مدمرة على المدنيين تُرتكب فى الأعمال العدائية المتصاعدة من جانب إسرائيل، ومن الواضح أن الإفلات من العقاب على الانتهاكات الماضية ساهم فى انتهاكات اليوم، التى لا يبدو أنها ستتوقف. رغم ذلك، التزمت الحكومات الصمت إلى حد كبير بخصوص الدور الحاسم للمحكمة الجنائية الدولية، الكيان الدولى الوحيد المكلف بالفعل بتحقيق العدالة غير المتحيزة.
وتجب الإشارة هنا إلى تتناقض الاستجابة حتى الآن بشكل صارخ مع الأزمات الأخرى، بما فيها أوكرانيا، وهى ليست دولة عضو فى المحكمة الجنائية الدولية. بعد التدخل الروسى فى فبراير ٢٠٢٢، حيث تحدث المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية عن الدور الحاسم للمحكمة، وطلب منه عدد غير مسبوق من الدول الأعضاء فى المحكمة الجنائية الدولية، معظمها أوروبية، فتح تحقيق فى أوكرانيا. حتى الولايات المتحدة، وهى أيضًا ليست دولة عضو فى المحكمة الجنائية الدولية، أعربت عن دعمها القوى لدور المحكمة الجنائية الدولية فى أوكرانيا.
إن شكوى جنوب أفريقيا تهدف إلى إضافة إسرائيل إلى هذه المجموعة سيئة السمعة، وبالتالى إحراج الولايات المتحدة كحليف لها، وبسبب محدودية ولاية محكمة العدل الدولية، فإن جنوب أفريقيا استندت فى رفع الدعوة على معاهدة دولية تتضمن شرط الاختصاص القضائي، وهى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التى صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع.
ومن ثم فقد مارست إسرائيل حملة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة قبل حادثة السابع من أكتوبر من خلال فرض حصار على القطاع. كما أن استمرار فرض الحصار لفترة طويلة والتسبب بتدهور الأوضاع المعيشية للجماعة عمدًا يمكن اعتباره عملية إبادة جماعية وفقًا للتعريف القانوني. إلا أن التحدى الحقيقى الذى قد تواجهه المحكمة الدولية هو قرار مجلس الأمن الذى يقرر استخدام حق النقض من خلاله والذى قد تستخدمه الولايات المتحدة. وأنه فى حال إدانة إسرائيل سيشكل ذلك الإدانة الأولى لإسرائيل نقطة البداية، وستفتح الباب أمام العديد من الدعاوى القضائية التى ستقام من قبل أعضاء فى الأمم المتحدة الذين يعارضون الإبادة الجماعية.