بعد إنهاء تمرد فاغنر.. من سيرث “مجرة” بريغوجين في إفريقيا؟
اضطلعت مجموعة “فاغنر” الروسية خلال السنوات الأخيرة بدور واسع النطاق في جنوب الصحراء الكبرى في القارة الإفريقية.
هذا الدور كان بمثابة أبرز مظاهر إعادة انخراط روسيا هناك، ويقوم نموذج فاغنر الإفريقي على نظام عمل ثلاثي يتمحور حول توفير الأمن، والتدريب العسكري، والتنقيب عن المعادن الثمينة.
“ثوب إعلامي”
لتبرير كل ذلك النشاط أمام المجتمع المحلي، لبست المجموعة ثوباً إعلامياً رصدت له مبالغ طائلة من خلال تسويق إعلامي في غاية الاحترافية ساعد إلى حد حاسم على إضفاء شرعية على الوجود الروسي في القارة الإفريقية وضرب سمعة المنافسين الغربيين مثل الولايات المتحدة وفرنسا بشكل خاص، والأخيرة تحديدا خسرت نفوذها التاريخي في المنطقة بسبب حملات إعلامية نجحت بتشكيل صورة في غاية القبح لدى مجتمعات الساحل الإفريقي عن الوجود العسكري الفرنسي أولاً، وثانياً نجحت بتشكيل تهديد عسكري جدي طال القواعد العسكرية الفرنسية ما دفع باريس لإعلان الانسحاب من مالي في أغسطس 2022.
وفق تقديرات استخباراتية فرنسية، بدأت فاغنر مهمة توسيع النفوذ الروسي في القارة الإفريقية وإزاحة فرنسا عن مستعمراتها السابقة بمئة عنصر، تولوا تهيئة الأرضية مع متنفذين ومسؤولين أفارقة وروس وصولاً إلى مرحلة توقيع المجموعة العسكرية الروسية اتفاقيات معهم كانت بمثابة السم الذي دس في حصة فرنسا من الكعكة الإفريقية.
“مجرة بريغوجين”
الكعكة التي ساءت الأمور بسرعة أمام باريس ولم يسنح لها الوقت بالتهام حصتها منها بعد أن حانت ساعة المغادرة، استولت عليها مجموعة زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين، التي أسست في ما بعد ما سيصطلح على تسميته فرنسياً بـ”مجرّة بريغوجين” في إفريقيا، وهي سلسلة معقدة جداً من العلاقات والشركات والعقود، ومن أبرز أركان هذه المجرة كان “نظام حرب المعلومات” الذي احترفته فاغنر ضد الفرنسيين في إفريقيا، وجاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ذكره، بمرارة، في كل خطاباته ومقابلاته المتعلقة بالوجود الفرنسي في إفريقيا.
بالنظر إلى نشاط ومهام “نظام حرب المعلومات”، فإنه تبدو أقوى من الصورة العسكرية لفاغنر كميليشيا تثير الرعب أينما ذهبت، فهذا النظام مسؤول عن إضفاء الشرعية على ما تسميه فاغنر “المدربين الروس” عندما تبدأ بنشر مقاتليها في منطقة ما، وذلك ليس فقط من خلال التسويق لدور هؤلاء “المدربين” على وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما من خلال نظام في غاية التعقيد مرتبط بالعديد من الجهات الفاعلة في شبكة بريغوجين الخارجية، فتنتج الرسوم المتحركة وأفلام الحرب وتستقطب شخصيات محلية متشددة من المناطق التي تنتشر فيها.
“حرب المعلومات”
وفق دراسة أعدها الباحثان الفرنسيان مكسيم أودينيه وكولين جيرار بعنوان (فاغنر) “المحررون”، فإن “نظام حرب المعلومات” كان عبارة عن نظام ولد شتاء 2011 – 2012 في روسيا بشكل سري في سياق الاحتجاجات الشعبية الأوسع منذ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق ضد نتائج الانتخابات البرلمانية، والتي أدت إلى فوز حزب “روسيا الموحدة” بزعامة رئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين.
هذه القوة التي حمت بوتين وأثّرت على حركة معارضة واسعة وقتها، نمت خلال العقد الماضي حتى أصبح من غير الممكن إخفاء علاقة بوتين مع بريغوجين، لتصبح في العام 2019 “مجموعة باتريوت الإعلامية” التي يترأس مجلس إدارتها بريغوجين في سان بطرسبرغ، وتتكون من 11 وسيطاً، و130 شريكاً من وسائل الإعلام، ما خلق في الظاهر، وفق الدراسة الفرنسية “فضاءً إعلامياً للتنمية في روسيا يستجيب لمتطلبات حب الوطن”، لكن في الخفاء كانت ذراعاً روسية تسللت إلى مناطق عديدة حول العالم قبل أن تؤسس قوة ضاربة فاجأت القوى الغربية ودفعت بعضها، مثل فرنسا، إلى المغادرة ليلاً من مواقعها في إفريقيا.
“مصانع ترول”
هذا الفضاء الإعلامي ضم مؤسسات إعلامية وشركات مؤثرة، منها “وكالة الصحافة الفيدرالية” (RIA FAN)، وأحد أبرز أعضاء إدارة وكالة أبحاث الإنترنت “IRA”، إحدى الشركات الرائدة في مشروع “مصانع ترول”، التي صدر بحقها لائحة اتهام في واشنطن نتيجة تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
اليوم مع مغامرة “تمرد” فاغنر، تُطرح أسئلة عديدة حول مستقبل “المجرة” التي يمتلكها بريغوجين في الخارج، والتي قدمت خدمات هائلة لروسيا لتوسيع نفوذها في الساحل الإفريقي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فمن غامر؟ بريغوجين المعروف بأنه واحد من “ثنائية الرأس” الروسية في الخارج والتي يتقاسمها مع بوتين، أم الرئيس الروسي؟ خصوصاً وأن وسائل إعلام روسية عديدة، وشخصيات نافذة خارج روسيا معروفة بالفعل بعلاقاتها الوثيقة أو عضويتها في “مجرة” بريغوجين لن يكون من السهل إخضاعها.