أمم إفريقيا – القاتل نداي مولامبا
خلال حوار سابق مع FilGoal.com، استرجع أسطورة الدراويش علي أبو جريشة اسما كونغوليا تاريخيا يُدعى “نداي مولامبا”. وبالرغم من أنهما تواجها مرتين فقط، لكن ما حدث في استاد القاهرة عام 1974 يعد علامة فارقة في حياة جيل بأكمله.
يقول علي أبو جريشة: “مولامبا كان لاعبا ممتازا دون شك، فهد في الركض بالكرة تحت قدميه، أحد أهم الأسباب لأول هزيمة بالألوان لمنتخب مصر على أرضه ووسط جمهوره وسط أجواء احتفالية لبطولة نفخ الإعلام أبواقها دعاية للنصر، كانت صدمة بقيت كثيرا”.
ويُكمل فاكهة الكرة المصرية: “إنها صدمة مباراة نصف نهائي كأس أمم أفريقيا عام 1974 أمام منتخب الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا)، وفي نفس العام تابعت مولامبا في كأس العالم بألمانيا الغربية، واختفى عن أنظاري للأبد بعدما تلقى البطاقة الحمراء أمام يوغوسلافيا والتي أعقبها خسارة قاسية بلغت تسعة أهداف دون رد”.
في السطور الأتية، كانت بداية النهاية لصاحب الرقم القياسي كأكثر لاعب إحرازا للأهداف في نسخة واحدة من كأس الأمم الإفريقية عبر تاريخها.
في كأس العالم بألمانيا الغربية عام 1974، كانت بداية تطبيق إخراج البطاقة الحمراء مباشرة أو بعد إنذارين، بعدما كان الحكم يكتفي فقط بإبلاغ اللاعب شفهيا ليغادر الملعب.
التطبيق الأول ظهر في وجه كارلوس كازيلي نجم تشيلي في المباراة الافتتاحية لكأس العالم أمام ألمانيا الغربية، وثانيا لخوليو مونتيرو لاعب أوروجواي أمام الطاحونة الهولندية في المجموعة الثانية والثالثة كانت من نصيب بطل الرواية الزائيري “نداي مولامبا”.
خطأ أحمق يرتكبه الظهير إيلونجا مويبو بركل الحكم من الخلف عقب الهدف الرابع للفريق اليوغوسلافي، يستشاط قاضي المباراة غضبا ويذهب للمساعد الذي يشاور له بالخطأ على نداي مولامبا، بينما لاعبي يوغوسلافيا يرجعون الكرة إلى دائرة نصف الملعب غير مكترثين لتلك الحماقات ويسعون تباعا لزيادة غلة الأهداف.
اليوغوسلافي بلاجوي فيدنيتش المدير الفني لمنتخب زائير بين مطرقة غضب رئيس البلاد موبوتو حين العودة واتهامات التفويت لبلاده الأم وبين سندان عدم الاعتراض على الحكم خوفا من أن توصمه صحافة الرئيس جوزيف تيتو بالخيانة.
استقبل نداي البطاقة الحمراء بكل هدوء وخرج متجها نحو دكة البدلاء التي أظهرت الجناح الشاب إيتيب ماكاكاو يهدئ من روعه بإشعال سيجار من أجله، نعم، لاعبو فيتا كلوب والأنجلبير فيما يبدو اتحدوا لأول مرة وبادروا بتدخين السجائر على دكة البدلاء اعتراضا على أشياء كثيرة داخل وخارج المباراة.
يقول نداي مولامبا في فيلم الذهب المنسي: “بكيت بصورة هادئة للغاية أمام الحكم، قلت له لم أفعل ذلك، زميلي إيلونجا موبيو ذهب للحكم واعترف بأنه من ركله، ولكن لم يكترث الحكم لكل تلك الأقاويل، بل وضع يده على أنفه وكأنه مشمئز من رائحتي وقال لي: أنتم جميعا زنوج، لا أفرّق بينكم”.
يواصل مولامبا: “جميع الحكام في ألمانيا الغربية كانوا ضد العرق الأسود، ليس هذا الحكم فحسب، وكذلك الحيوان البري رقم 4 من اسكتلندا -يقصد بيلي بريمينر- لقد بصق في وجهي وطوال المباراة كان يناديني “لا تتحرك بالكرة كثيرا يا زنجي”، كانت تلك الدورة بداية نهاية مشواري مع المنتخب”.
عقب المباراة المأساوية بيومين، قرع أحدهم باب تلك الغرفة المزدوجة التي تضم مولامبا والحارس كازادي، كانت رسالة ورقية يحملها جندي زائيري مكلف بحراسة تلك البعثة، حملت كلمات قصيرة من “الديك الذي يعاشر إحدى عشرة دجاجة” أو بالأحرى الرئيس موبوتو سيكو، الجندي الزائيري يسلم الورقة بيده اليسرى، أما اليمنى فيشهر بها فوهة بندقيته صوب اللاعبين لإنهاء من يعترض على رسالة الرئيس المسجلة.
“من الآن أنتم لستم في سلام، ستدفعون الثمن باهظا لتلك الهزيمة القاسية التي دنست وجه زائير في الأرض، اجعلوا العقوبة على رؤوسكم أنتم فقط ولا تخسروا بأكثر من ثلاثة أهداف أمام البرازيل، أكثر من ثلاثة سيكون أمام كل هدف ثلاث رصاصات في رأس كل فرد من عائلاتكم”.
وهنا أغشي على كازادي موامبا فورا من هول الفاجعة، كيف يمكن لفريق الفهود الزائيرية كبح جماح ريفلينيو ورفاقه البرازيليين أبطال كأس العالم السابق بالمكسيك 1970.. ولكن لم يهمس مولامبا ببنت شفة، فعند استرجاعه الشريط قليلا عرف كيف وصل بمشواره الحافل إلى تلك المأساة بالنهاية من خلال تسلسل رسائل الرئيس.
كعادة الأجيال الباكرة من منتصف الأربعينيات، ولد نداي تحت وطأة الاحتلال البلجيكي عام 1948 بمدينة لولابورج بالمسمى البلجيكي القديم، نشأ بيير نداي مولامبا في أسرة مكونة من ثمانية أطفال، تحت حذر من أب مهووس بالتعليم وحلمه أن يجعله مدرسًا. لكن الطفل، الملقب بـ “موتومبولا” بسبب نكتة سيئة أطلقها عليه سكان الحي، كان عنده تركيز واحد فقط: الساحرة المستديرة.
أطلق عليه اسم القس اللوثري الذي يدير مدرسته اسم “المندوب الرسمي كرة القدم” في سن العاشرة. يجب القول أن موهبة بيير نداي مولامبا لم تكن لتمر دون أن يلاحظها أحد. في سن الرابعة عشر، لعب مباراة أمام رئيس الجمهورية ، جوزيف كازافوبو “أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال”، مع تسجيل هدفين رائعين استوجب هتاف الجميع بمن فيهم الرئيس لتلك الموهبة الواعدة.
يقول والده الذي لم يتأثر بهذا العمل الفذ من نداي: “ما من شك في أن ابني موهوب بكرة القدم. ولكنه ليس شيء مهم. كرة القدم لم تخلق للرجال الصالحين التربويين”.
ولكن تحت ضغط متزايد من السلطات المحلية، كان على الوالد جورج مولامبا التخلي عن ابنه ليصبح أسطورة فريق كاساي سنترال أولا ثم أسطورة الكرة الزائيرية.
مولامبا: “فُتحت لنا الملاعب في كينشاسا من أجل التجمع والاستماع للمذياع معا أثناء مباريات منتخب زائير في كأس الأمم المقامة في إثيوبيا، كنت أبلغ وقتها حوال 20 عاما، إلا أن صيتي قد ذاع بشدة بعد مبارياتي مع فريق كاساي سنترال أمام الأندية الكبيرة مثل مازيمبي وفيتا كلوب في بطولتي الدوري والكأس”.
ويضيف: “ما أن تحركت لأول مرة بين المدرجات أثناء نهائي البطولة بين الفريق الوطني وغانا لكي أستمع وأدخل في نقاشات مع الجميع، حتى أطلق بعض الجنود النيران في الهواء الطلق لإجبار الجماهير على غلق أفواههم استعدادا لبيان يذاع عبر الإذاعة الداخلية للاستاد”.
دب الصمت بين الجموع، الرئيس يعلن بأن كل هدف يتبعه يومين إجازة رسمية للبلد أجمع، إضافة إلى إغداق عناصر المنتخب الوطني الفائز بأحدث السيارات والأموال.. والجماهير تنطلق في الصراخ من الفرحة مع هدف كالالا موكندي في مرمى روبرت منساه حارس المنتخب الغاني.
كان موبوتو سيسيسيكو هو ثاني رئيس للبلاد بديلا لكازافوبو، بعد انقلاب دموي.. لم ينس الشعب من قبل أن موبوتو كان الخائن الذي دل البلجيكيين على الزعيم الثائر باتريس لومومبا وسلمه للبلجيك، إلا أن بوصول الرجل للسلطة كان اهتمامه معظمًا بكرة القدم التي رآها أداته للمنافسة على زعامة القارة أمام كوامي نكروما الذي تسلح بكرة القدم أيضا لمجابهة القارة كلها، واستغلال فرصة أن القوى العظمى (مصر) غارقة في تبعات النكسة وغير مهتمة الآن بالشؤون الإفريقية ومنها كرة القدم.
نداي أثناء تواجده في الملعب الوطني بكينشاسا لم يكترث لكل ذلك، فكر فقط في هدايا الرئيس السخية، وعروضه التي لا يمكن رفضها، شعر نداي وقتها بأنه يمكن المراهنة على قدميه بأن يصلا به إلى أعلى المراتب في أكبر الدول مساحة في القارة، في بلد الموارد الطبيعية السخية زائير!
انضم نداي إلى فيتا كلوب -الفريق الجماهيري الأكبر بالبلاد عام 1972- وكان ذلك مفتاحا لانضمامه للمنتخب الوطني من أجل المشوارين الأهم “أمم أفريقيا بالقاهرة وكأس العالم ببرلين” وكلاهما بعام 1974.
مولامبا في فيلم الذهب المنسي: “كان معروفا أن فريق فيتا كلوب هو الفريق المفضل للرئيس موبوتو، لعبت مباراة الكأس ضد فيتا كلوب وأنا في انتظار هل ستكسب قدماي الرهان أم لا، بالتأكيد الرئيس يشاهد المباراة بطريقة ما”.
في الحقيقة أن موبوتو كان يشاهد المباراة في غرفته الفضاء ذات الأنوار الخافتة الشبيهة بساحة السيرك، فهو لا يجرؤ على أن يغادر مخبأه الخاص ذلك وينخرط وسط الجموع في نهائي الكأس خوفا من الاغتيال، ولكنه أشار لمبعوثه ماكويلا أفيدي بأن يبعث برسالة شخصية منه.
“انضمامك لفريق فيتا كلوب، سيجعلك فتى زائير الأول، والسيارة الفولفو الآن هى ملك لك”.
كان انتقال مولامبا إلى فيتا كلوب جعله أول رياضي يقتني سيارة فولفو الشهيرة في البلاد، أصبح ذلك لقبه لاحقا، أنضم بالتالي للمنتخب الوطني!
رسالة موبوتو الثانية.. ما بين الشقاء والمجد
يقول ماكولو وا بومبو السكرتير الشخصي لموبوتو لـ بي بي سي:
“كان بيننا وبين مصر مقاطعة غير معلنة بسبب تأييد جمال عبد الناصر لـ باتريس لومومبا على حساب موبوتو وكذلك دعمه للفصائل المتمردة لدى الجارة اللدودة الكونغو برازافيل، كان أمرا غريبا أن يطلب الرئيس محمد أنور السادات استضافة موبوتو سيسيسيكو شخصيا في احتفالية خاصة بأبطال حرب أكتوبر/ يوم كيبور”.
ويستدرك: “ولكن وضح الأمر جليا بأن السادات طلب وقتها مساندة موبوتو الشخصية في أن يلعب منتخب زائير “القوى الكروية الأولى بالقارة” في بطولة أمم أفريقيا التي تستضيفها مصر مارس عام 1974″.
كان جليا أن مصر قد خرجت منهكة بالفعل بعد هدنة برعاية كسينجر لوقف زمام الحرب ضد إسرائيل في يناير عام 1974، ولكن كان عجيبا أن تستضيف 7 بعثات افريقية تمثل عدد المنتخبات المشاركة معها بأمم أفريقيا على ثلاث مدن كبرى مثل القاهرة، الإسكندرية ودمنهور، ثلاث مدن يفصل أقربها من قلب استاد القاهرة حوالي 110 كيلو متر عن تمركز الدبابات الإسرائيلية القاطعة لطريق السويس إضافة إلى خطوط الدفاع الجوي المنهكة تماما والتي قد لا تستطيع مقاومة أي غارات إسرائيلية.
كانت البطولة ذات أبواق دعائية على نحو كبير دون شك، خرج معظم اللاعبين القدامى من المحلة والإسماعيلية من أجل تصدير إن القوى الكروية القديمة مصر قد عادت مرة ثانية، وفي نبرة شوفينية نحو حدودها الجنوبية كالمعتاد، كانت المباريات تقام في الظهيرة والجرائد مساء مجهزة بعناوين النصر وتبدأ في الطباعة قبل أن تبدأ المباراة نفسها.
ولكن على الجانب الآخر في الإسكندرية، بقي نداي مولامبا ورفاقه حيث استقروا في فندق شهير بشارع النبي دانيال، غير مدركين ماذا عليهم أن يفعلوا، كذلك لم تكن ثقة لاعبي المنتخب بمولامبا المنضم حديثا كبيرة، إلا أن هدفين في المباراة الافتتاحية لزائير منه حسما الفوز أمام غينيا بدأت أن تحدث دويا كبيرا بينهم وصدى ضئيل لازال على مستوى التغطية الصحفية المصرية.
إيلونجا مويبو يقول: “بعد الفوز على غينيا بفضل هدفي مولامبا، تبقت لنا مواجهة كبيرة أمام الجارة الكونغو برازافيل، لقاء عدائي يشبه لقاءات تركيا وأرمينيا، ألمانيا وإنجلترا. كان الرهان على الفتى الجديد نداي مولامبا أمام اللاعب رقم 1 بإفريقيا وقتها “بول موكيلا” وبطل أمم إفريقيا 1972 بالكاميرون، ولكن الفتى الجديد خسر المباراة وأضاع حفنة من الفرص، وهدف وتمريرة حاسمة من موكيلا أنهيا المباراة بخزي كبير لنا”.
وصل مطار الإسكندرية شخص ما يرتدي قبعة بصفة رسمية يتمتع بحصانة دبلوماسية يحمل حقائب ضخمة و23 ظرفا يمثل عدد أعضاء الفريق ذوي الجنسية الزائيرية عدا المدير الفني اليوغوسلافي، الحقائب تحتوي نقودا بالعملة المحلية، والأظرف تحتوي رسالة شخصية من موبوتو:
“إن عدتم بالكأس فتلك الحقائب ستكون لكم، وإن خسرتوها فلن تعودوا للبلاد مجددا”.
فيليب مايانجا مهاجم الفريق: “لأول مرة رأى الفريق جانبا من وجه موبوتو القبيح، الجانب المظلم من الوجه المزدوج، ولكن حمل في الشق الأخر تبشير بمكافآت مالية ضخمة، فزنا على مورشيوس 4-1، واستعدنا لمواجهة مصر في نصف النهائي”.
مويبو إيلونجا يقول في فيلم الذهب المنسي: “لأول مرة في حياتي ألعب باستاد به عدد جماهير أكبر من الملعب الوطني بكينشاسا، الاستاد امتلأ عن آخره بجماهير كلما اقتربنا من الكرة قلدت أصوات القرود، خرجنا من الشوط الأول متأخرين بهدف نظيف، الأول منهما بقدمي في مرماي، لن أعود للبلاد مجددا”.
وقتها تحدث المدير الفني اليوغوسلافي بلاجوي فيدينيتش إلى مولامبا شخصيا، أوصاه باللعب كجناح بديلا عن مهاجم، اجتمع به شخصيا بأن تلك فرصته ليرد على تجاهل الصحافة المصرية لما قدمه هو شخصيا بدور المجموعات.
زاد علي أبو جريشة الطين بلة بالهدف الثاني، إلا أن مولامبا ورفاقه في نحو 17 دقيقة فقط أسكتا أصوات تقليد القردة تماما، حين أضافوا ثلاثة أهداف منهم هدفين لبطل القصة، تعني أن تلك أول هزيمة للمنتخب القومي على مدار تاريخه بملعبه!
يقول علي أبو جريشة لـ FilGoal.com: “ما حدث يومها كان أقرب لدروب الخيال، كرة ذهبت بها انفرادا أنا وحسن شحاتة ارتدت من القائم وعادت لكازادي حارس المرمى، أما كرة الخط أمامي ذهبت بغرابة فوق العارضة، الفريق الزائيري استحق الفوز رغم كل ذلك، أمام كل كرة مننا على المرمى هم وصلوا بكرتين”.
وأمام حضور 5000 متفرج فقط في أضعف حضور لنهائي بالتاريخ لأي بطولة قارية، كان على لاعبي زائير أن يختاروا.. حمل الحقائب أو الهرب من جحيم موبوتو إلى القاهرة، مولامبا يومها تساءل مع أفضل لاعب في افريقيا عام 1973 “بوانجا تيسمان”.. ماذا لو كانت النقود مزورة؟!
أمام حضور 5000 متفرج فقط في أضعف حضور نهائي بالتاريخ لأي بطولة قارية، كان على لاعبي زائير أن يختاروا.. حمل الحقائب أو الهرب من جحيم موبوتو إلى القاهرة، مولامبا يومها تساءل مع أفضل لاعب في افريقيا عام 1973 “بوانجا تيسمان”.. ماذا لو كانت النقود مزورة؟!
بوانجا رد: سأمر إيلونجا فورا أن يكرر فعلته السابقة أمام مصر، وسأواجه موبوتو رجلا لرجل!
طالع الجزء الأول منهنا
الحلقة الثانية والأخيرة من مسيرة نداي مولامبا أحد أعظم لاعبي قارة إفريقيا والكونغو الديمقراطية عبر التاريخ..
كانت مصر صيدا للكاميرات بعد انتصار حرب أكتوبر، وفيما يبدو أن وكالة الأسوشيتد برس قد وجدت ضالتها بأرض خصبة عامرة بالأحداث، فتارة تصطاد زيارة الرئيس نيكسون إلى الإسكندرية بصحبة السادات للتفاوض على الهدنة يناير عام 1974، وتارة أخرى تنقل أول مظاهر الزهو ودخول الرعاية إلى بطولة أمم أفريقيا بنفس العام في مارس. الكاميرات نقلت إعلانات السجائر الأجنبية “Marlboro” أولى إرهاصات الانفتاح السياسي نحو الغرب في بطولة تعج بالدول التي لم تتخلص من آثار الاشتراكية بعد، ومنتخب مضيف ضم لاعبين بروليتاريين من المحلة قلعة العمال ومن الإسماعيلية والترسانة!
الأسوشيتد برس نقلت أيضا كلمات من المعلق الزامبي “دينيس لويوي” أعظم المعلقين الرياضيين بتاريخ القارة ويقطع صوته بالتعليق المصري حسين مدكور، الصوت المصري فاتر لغياب المضيف المفاجئ عن النهائي. أما الصوت الزامبي فكان ملتهبا خائفا من رجل واحد فقط.. من نداي مولامبا.
دينيس لويوي: “مولامبا هو أسرع رجل وطأت قدميه ملعب ناصر الدولي (استاد القاهرة حاليا)، زامبيا فعلت كل شئ وسجلت هدفين، ولكنها تجابه رجل واحد فقط، وصل برصيده من الأهداف للرقم 7، فيما يبدو أن المباراة تتجه للإعادة بعد التعادل في الوقت الإضافي”.
ظلمًا أن نقول أفريقيا لم تعرف بعد عن ركلات الجزاء، اللجنة المنظمة رأت بأن ذلك يضفي جزءا من الإثارة تيمنا بنهائي كأس الأمم الأوروبية عام 1968 الذي أعيد مرتين وفازت فيه إيطاليا على حساب يوغوسلافيا.
يقول مويبو إيلونجا: “الـ 5000 متفرج بمصر كانوا يصفرون ويرددون أصوات القردة مع كل مرة نلمس بها الكرة، في مباراة الإعادة مولامبا رد لنا إنسانيتنا وأحرز هدفين نظيفين أنهى بهما اللقاء، ورفعنا الكأس بقلب القاهرة ردا على العنصرية تلك”.
مولامبا: “عدنا بالكأس إلى البلاد، ولا نلقى سوى معاملة الأبطال، استضافنا موبوتو في القصر الرئاسي، بعد أن تأهلنا للمونديال وفزنا بكأس أفريقيا، حين مددت يدي لأصافح موبوتو تلقفها أحد المسؤولين بدلا عنه وصافحني بحرارة وسلمني مفاتيح أوصاني أن أقبض عليها بشدة”.
ويضيف: “جلسنا في دوائر حول موبوتو وعلى رؤوسنا الطير خوفا من أن يتحرك أحدنا لأنه كان مهووسا بفكرة تعرضه للاغتيال، حين خرجت من القصر وجدت رجلا يهلل لي من بعيد ويقول لي أنظر ما في يدك، إنها مفاتيح سيارة فولفو أحدث من القديمة التي معك.. أحدث سيارة في العالم وبداخل السيارة رسالة كانت شخصية من الرئيس”.
رسالة موبوتو الرابعة: “يمكنك الفوز بكأس العالم لتمتلك أسطولا منها”
في سنة واحدة لعق نداي مولامبا المجد، فاز بالدوري والكأس وكأس أفريقيا للأندية بطلة الدوري مع فيتا كلوب، ووصل إلى كأس العالم بألمانيا الغربية وفاز بأمم إفريقيا بل وحاز على لقب أكبر عدد من الأهداف المسجلة ببطولة واحدة قاريا متساويا إلى الآن مع الفرنسي ميشيل بلاتيني والقطري المعز علي.
إلى أين انتهى بلاتيني وسينتهي المعز علي.. خالفهما نداي مولامبا عقب تلك الرسالة.
“من الآن أنتم لستم في سلام، ستدفعون الثمن باهظا لتلك الهزيمة القاسية التي دنست وجه زائير في الأرض، اجعلوا العقوبة على رؤوسكم أنتم فقط ولا تخسروا بأكثر من ثلاثة أهداف أمام البرازيل، أكثر من ثلاثة سيكون أمام كل هدف ثلاث رصاصات في رأس كل فرد من عائلاتكم”.
بوانجا تيسمان لـ بي بي سي: “تولى أمر قيادتنا مدير فني يوغوسلافي عبارة عن سمسار فحسب، تركنا في البطولة نغرق أمام الفرق بالمجموعة وتكلف هو فحسب إلى إدارة أعماله الخاصة في معركة الفيفا المحتدمة للرئاسة”.
في جناح فندق بفرانكفورت، قبل انطلاق كأس العالم 1974 ببضعة أيام، تحول وجه ملك إمبراطورية adidas الشهيرة هورست داسلر من إشراقة مفعمة بالثقة إلى شيء من الصدمة والرعب بعد أن طالع الصحف الألمانية اليومية التي أشارت لتقدم الإنجليزي ستانلي روس في انتخابات الفيفا، وهذا بالتأكيد سيؤدي لخسارة داسلر الملايين من أرباح شركته بعد أن اختار السباحة ضد التيار وأن يقف مساندا لرجل آخر تقدم للمنافسة من أمريكا الجنوبية.
قطعت تلك اللحظات من الشك والصدمة زيارة ضيف طمأنه بأنه يراهن على الجواد الصحيح، دعا داسلر وقتها ضيفه اليوغوسلافي بلاجوجي فينديك، اليوغوسلافي الذي تمتد به أواصر علاقة وطيدة مع داسلر، سبق له أن أدار منتخب المغرب في كأس العالم 1970 وكان وقتها أول منتخب إفريقي يستخدم منتجات شركة adidas، والآن يتواجد في ألمانيا لتولي منصب المدير الفني لمنتخب زائير.
فعل داسلر بالطبع نفس الشئ من إغداق الهدايا على أبناء موبوتو سيسي سيكو. وردّ بلاجوجي الهدية بأن أعطى له عدد غرف المنافس ستانلي روس ونقل له أخبار التشاؤم التي ملأت الإنجليزي بعد ظهور فرس رهان جديد سيحسم الصراع على منصب رئاسة الفيفا، أحضر داسلر زجاجة من الشمبانيا احتفالا بعصر ستغزو فيه إمبراطوريته عالم كرة القدم إلى الأبد.
دخل منتخب زائير مباراته الأخيرة ضد البرازيل وجميعهم علموا أن حياتهم ترتبط بهذه المباراة ونتيجتها، بعضهم تمنى لو ترجى نجوم البرازيل أن يفوزوا فقط بنتيجة 1-0 لكن ذلك لن يحدث، على الجانب الآخر كانت الأمور شائكة بالنسبة للبرازيل، احتاج المنتخب الفوز بنتيجة 3-0 ليضمن التأهل من دور المجموعات.
قال إيلونجا عن تلك اللحظات :”دخلنا المباراة ونظرنا للاعبين مثل ريفيلينو وجاريزينو كنا متوترين للغاية يمكنك أن تتخيل المشهد، علمنا أننا سنخسر لكن كان يجب أن نتأكد من أننا سنقاتل من أجل حياتنا وحياة أسرنا”. فعليا هذا ما حدث، قاتلت زائير في المباراة وتحولوا من منتخب كارثي ضد يوغوسلافيا إلى آخر يضغط البرازيل، لينتهي الشوط الأول بنتيجة 1-0.
“بين شوطي المباراة كنا في مزاج رائع، نحن خاسرون من البرازيل بنتيجة 1-0 فقط”.
أعتقد منتخب زائير أن أكبر إنجازاته ستكون خروج البرازيل من البطولة معهم، ثم جاء هدفا رائعا من مسافة 30 ياردة وأخيرا هدف ثالث. ثم احتسب الحكم ركلة حرة مباشرة لمنتخب البرازيل، واصطف لاعبو زائير في حائط للتصدي للكرة، ثم يخرج أحد اللاعبين، إيلونجا، ليسدد الكرة بعيدا عن ريفيلينو وجاريزينو.
لم يفهم أحد ماذا حدث، إلا إيلونجا الذي قال :”رأيت ريفيلنو يستعد وسيفعل ما هو قادر عليه دائما، خمسة خطوات للخلف والكرة من هذه المسافة تعني هدفا، وكنا متأخرين فعليا بنتيجة 3-0، كنا في مشكلة لأن هدفا إضافيا يعني مقتلنا جميعا، فكرت في أمر يضيع بعض الوقت، لذا قمت بالخروج من الحائط وركلها بعيدا، شعرت بالغباء لأن الجماهير بدأت في الضحك من حولي ولاعبي البرازيل، صفرت على الجماهير وسببتهم لأنه من الصعب أن تتذكر كم كنت غبيا، لكنها فضيحة للبراءة الإفريقية”.
عاد المنتخب ومولامبا إلى زائير، تم سحب الهدايا منهم وإطلاق سراح أهاليهم، ولكن وضعوا تحت الإقامة الجبرية مدى الحياة، وظل مولامبا يلعب لـ 14 عاما تحت الإجبار لفريق فيتا كلوب حتى اعتزل عام 1988، عاش يفكر كيف يمكنه الهرب بالسيارة الفولفو من زائير، تحت فقر مدقع لأن موبوتو قرر صرف الاهتمام عن الرياضة التي حد قوله دنست وجه زائير.
رسالة موبوتو الأخيرة.. ليست ورقة تلك المرة
في عام 1994، اختارت اللجنة المنظمة لبطولة أمم إفريقيا بتونس أن تكرم نداي مولامبا الهداف الأعظم ببطولات إفريقيا، على الرغم من مشاركته ببطولتين فقط.. كان التكريم رمزيا بميدالية، إلا أن بدأ بعده الجزء الأكثر شقاءا في رحلة مولامبا حتى الوفاة.
في بلدة مولامبا الأم بعد التكريم بشهر في الرابعة فجرا، كسر باب شقته أربعة مسلحين برتبات عسكرية شاهرين الأسلحة بوجهه.
-مولامبا، نحمل رسالة من الرئيس، يريد ميداليتك الشخصية والنقود التي حصلت عليها، كل ذلك ملك لزائير.
أبدى مولامبا اعتراضا ورفض تسليم الميدالية الشرفية، أعقب ذلك ضربة من أحد المسلحين بباطن البندقية على رأسه ثم رصاصتين صوب قدمه اليسرى والتي جلبت المجد لزائير سابقا، حاول ابنه مكايكانا ذو التسع سنوات الدفاع عن أبيه الجريح ودفع الجنود، إلا أن رصاصة في قلبه أنهت كل شيء، وسقط الطفل بجوار الأب مولامبا غارقا في دمائه وتوفي في الحال.
-مولامبا، هل تسمعني.. أحمل لك رسالة من الرئيس..
مولامبا: يكفى رسائل الرئيس، لم يبق لي شيئا بالحياة، أنا محتجز بالمستشفى هنا منذ ثمانية أشهر، والمسلحين المدججين يريدون قتلي، أحب أن تكون تلك الرسالة الأخيرة كمثل سابقتها ولكن لا يخطئ الهدف تلك المرة.
-الرسالة يا مولامبا ليست من موبوتو، الرسالة من رئيس المعارضة، سنقوم بتهريبك الليلة إلى أنجولا برا، وهناك ستنتظرك طائرة إلى جنوب إفريقيا لتبدأ حياة جديدة.
هرب بالفعل مولامبا لأنجولا برا، ولكنه لم يركب الطائرة، واختفت أخباره حتى عام 1998، وسرت شائعة قبل الكان المقام ببوركينا فاسو أن نداي قد قتل بعد انفجار أحد مناجم الفحم في العاصمة الأنجولية لواندا، حيث عثر على آثار جثة مواطن مقاربة له، تعرف عليه أحد العمال الناجين وحكى أنه كونغولي هارب من بطش موبوتو.
أقيمت مباريات المجموعة الثالثة والرابعة في الجولة الثالثة على يومين متتاليين بدقيقة حداد على روحه، مجموعتان شهدتا بيندكت مكارثي وحسام حسن وقد وصلا إلى إحراز 7 و5 أهداف على الترتيب، دون أن يعرفا أنهما ينافسان أحد عمال المناجم على لقب أكبر هدافي بطولة أمم إفريقيا.
-نداي مولامبا عام 2000 لصحيفة محلية بجنوب افريقيا: “أنا حي ولم أمت، هربت من أنجولا إلى جنوب افريقيا برا عام 1995، أقمت عاما في جوهانسبرج، ثم بقية الوقت الآن في كيب تاون، أعمل في مرآب للسيارات، وليلا أشاهد رشيدي يكيني وبابا نجيدا وكل نجوم نيجيريا وجنوب إفريقيا، وطيلة الأمد أتشفى في موت موبوتو بالسرطان في خصيتيه”.
في نهاية 1997، حدث انقلاب عسكري بقيادة لوران كابيلا على الرئيس موبوتو الذي هرب لتوجو ثم المغرب، حيث مات هناك ودفن بمقبرة مسيحية، أما مولامبا فظل عاملا بمرآب سيارات وتزوج بجنوب أفريقية، إلى أن اكتشف شخصيته أحد المخرجين ليقدمه بفيلم الذهب المنسي، والذي دعا جوزيف بلاتر أن يدعوه لحضور مباراة الافتتاح بكأس العالم 2010 وكرمه شخصيا.
في مطلع 2019، وعن عمر ناهز الـ 70 عاما، سكنت روح مولامبا.. وظل رقمه صامدا كأعظم هداف لبطولة أمم افريقيا.
يُلقَب مولامبا بالـ “assassin” أو “القاتل”.