ملتقى الإبداع

“بره الطابور”.. عبقرية الفكرة والأداء المشرف فى الأفلام القصيرة

قالت الكاتبة والباحثة الثقافية سميحة المناسترلى، إننا نتابع بالسنوات الأخيرة تطور أداء الأفلام القصيرة، وانطلاقها على مستوى المهرجانات والمسابقات العالمية والإقليمية، مع تطور تقنياتها وأدواتها بصورة سريعة، سواء البسيط منها بداية من أفلام صورت بكاميرات الموبايل أو الكاميرات البسيطة العادية، مع إمكانيات عمليات المونتاج التصحيحية الساحرة، والتدخل الموسيقي المدروس بعناية للمشاهد القليلة، وبالطبع (عبقرية الفكرة والهدف أو الرسالة) التى يقوم بترجمتها على الشاشة مخرج يجب أن يكون متمكن وعبقري، لكي يقوم بترجمة ودمج كل هذه العوامل من فكرة وسيناريو وحوار، وتدريب مضني لتحسين أداء لمبدعين جدد، بهارموني متميز ليخرج للمشاهد ككبسولة صغيرة تصل لوجدانه بيسر وسلاسة، فذروة تألقه ونجاحه عندما يشعر أنه وصل لإشباع رغبة المتفرج بالتمتع بجوهر الفيلم الطويل بكل مكوناته، من خلال فيلم قصير له مضمون يرضي المتلقي والناقد.

وأضافت المناسترلى أنه بالرغم من الصراع المادي غير المتوازن، بين سينما تقوم على المجهودات الذاتية والتطوعية من مبدعين هواة، يقوم أحيانا بعض الفنانين المحترفين بالإشتراك معهم لمساندة تجربة ابداعية حقيقية، وبين أفلام تتكلف ميزانيتها عشرات الملايين بل تتعدى أحيانا مئات الملايين، غالبيتها لا يحمل فكر ولا رسالة ولا مواهب حقيقية، وكان التراجع المهين للفيلم المصري بالعقود الأخيرة على يد دخلاء للتمويل، أصبحت صناعة رصيد من الأموال هى الهدف الأصيل للأسف الشديد، مقابل نشر الفقر في الأخلاق وغياب الإنتماء والموروثات الإنسانية والتفكك المجتمعي .

وهنا وبعد غياب عقود تظهر بقوة سينما الشباب لمقاومة هذا الزحف الذى كاد أن يودى بتاريخ صناعة سينما الزمن الجميل، التوليفة الصحية لسينما هادفة لإسترجاع هويتنا الحقيقية، ولترسيخ مفاهيم انسانية وتوعوية هامة، تعتمد على دمج الواقع بالرمزية بمهارة شديدة، الصراع غير متكافيء صحيح، لكن في رأيي المتواضع أن سينما الشباب والفكر النقي قادمة بقوة كاسحة، لأن الجمهور الحقيقي ينتظر هذه النوعية من الأفلام بشغف، ليس فقط الجمهور المصري ولكن الجمهور العربي كله اشتاق للروح المصرية الأصيلة، فكما كانت الريادة للسينما المصرية في بداياتها، فهى الآن ورغم وقوعها في أيادي ليست متخصصة، ورغم تراجع الإنتاج وعدم التواجد الفعلى كما كان، فالأمل نلمسه الآن من خلال سينما جادة لشباب مبدع، يمتلك موهبة وثقافة ودراسة وعلم تقني، وقبل كل شىء الإصرار على النجاح والوصول للهدف بإستخدام أقل الإمكانيات، وعبقرية الفكرة والمهارة في توصيل الرسالة .

وعن الفيلم القصير “بره الطابور”، قالت الكاتبة سميحة المناسترلى، كانت تجربتي الأخيرة لمتابعة هذه النوعية المبشرة للفيلم القصير، من خلال مشاهدتي يوم السبت الماضى، لفيلم ” بره الطابور” للمخرج محمد الشاذلي، والذي قام بترجمة الفكرة أوالرؤية العبقرية للفنان ياسر الزنكلوني (البطل والشخصية المحورية بالفيلم) بإسلوب متفرد، فقام بدمج الواقع بالرمزية في صورة أو لغة سينمائية سلسة دون الإخلال بعمق الجوهر، ونرى الواقع من خلال عنوان الفيلم ( بره الطابور) وهو مجرد طابور انتظار لإستلام رغيف الخبز أو أنانبيب بوتجاز ( البعض يراه طابور الحياة، من سيستمر ومن سيسقط)، يستخدم المخرج أدواته بمهارة شديدة، مستعرضا النماذج التى تمثل المجتمع بفئاته المختلفة، وما استجد عليه من سلبيات قاتلة ومدمرة، فترى تخاذل الكثيرين وقت الأزمات، السلبية وتراجع روح الشهامة في الشارع المصري .

وتتابع المناسترلى حديثها عن الفيلم : يظهر كل هذا من خلال موقف بطولي يجب أن يقوم به أي شخص منهم، وهو دور شخص أصيب بغيبوبة فتم ابلاغ الإسعاف من رقم تليفون صاحب المخبز ، لكن الرجل يستفيق ويغافلهم ويترك الطابور دون أن يلاحظ أحد، هنا خاف صاحب المخبز أن يتهم بتقديم بلاغ كاذب، وأصر أن يقوم شخص بالنوم على الأرض ليراه المسعفون، ويظهر هنا الدور السلبي للأغلبية، وتظهر لغة الإتكالية على الجميع، إلى أن تظهر القدوة الصالحة من خلال الشخصية الرئيسية بالفيلم، والتى يمثلها الفنان ياسر الزنكلوني شخصية تريد نشر روح التفاؤل داخل هذا الطابور المتشاحن على الخبز، خاصة بتواجد صاحب المخبز المتسلط المتحكم في رغيق العيش، وأيضا عمل علاقة جميلة بينه وبين الأطفال بالطابور ، لكنه خص طفلة (موهوبة) بنوع من التواصل والشفافية بينهما، هذه الشخصية المحورية تقبل أن تنقذ الموقف بمنتهي الرضا و السرور لكي تنتهي الأزمة، واستلقى على الأرض عند سماع صوت عربة الإسعاف قادمة، متقمصا دور من يعاني من الإغماء مبادلاً الطفلة الصغيرة النظرات الباسمة في تفهم وشفافية، يقوم رجل الإسعاف بالكشف عليه ويعلن موت البطل وسط اندهاش الجميع وصدمتهم من الخبر المفاجئ في ظل سماع صوت زوجته على الطرف الآخر من الموبايل مستمرة في الحديث متسائلة عما يحدث من جلبة، مستفسرة عن من توفى !! ؟

وأشادت المناسترلى بعمق الفكرة بالفيلم، وقدرة المخرج على التدريب الجيد لإظهار موهبة وقدرة الممثلين واستخدام الرمزية بسلاسة وعمق، والإسقاطات المختلفة التى تأخذ الجمهور إلى أبعاد متنوعة بلغة سينمائية فيها أريحية لخيال وتصور المتفرج، ومن الممكن أن تؤخذ الفكرة بصورة قاتمة، لكنها تراها من وجهة نظرها بصورة تفاؤلية أكثر عمقاً لمن يريد ربط حلقة الإتصال ما بين شخصية البطل الذى يمثل الخير ومحاولة نشر السلام والحث على التكافل، وزرع روح الأمل والتفاؤل داخل الطفلة أو الأجيال القادمة ( النظرة الأخيرة بينه وبين الطفلة وكأنه يسلمها الراية لإستكمال دوره في الحياة ) .

تختتم الكاتبة سميحة المناسترلى حديثها وتقول، إن الفكرة التى تعتمد على عمق ورؤية فلسفية، هي جل ما نتمناه اليوم في السينما المصرية، الفكرة والرؤية التى تصلح وتعيد بناء الفكر الموضوعي والإصلاحي للنفس البشرية والمجتمع، لشباب يمتاز بالثقافة والرؤى المتنوعة، مع امتلاك الموهبة الحقيقية، مع مخرج يمتلك الموهبة واللغة السينمائية المتميزة والقدرة على مواكبة كل ما هو جديد بأقل الإمكانيات المتاحة، في ظل صراعات بيزينيس الإنتاج دون إدراك لقيمة التاريخ العظيم للسينما المصرية، ودور مصر في ريادة هذه الصناعة العالمية، لقد سعدت بمتابعة فيلم (بره الطابور ) وهو فيلم بره المنافسة، وأتمنى أن أرى هذا الفيلم مع بعض التعديلات البسيطة التى توضح الزمن الحقيقي لطابور العيش وأزمة أنابيب البوتجاز ، من خلال فيلم سينمائي طويل وبنفس أبطاله “ياسر الزنكلوني، أشرف عبد العزيز، رشا سامي، محمد فرغلي، إبراهيم سحلوب، سماح عبد الله، لمياء السعداوي” وغيرهم من الفنانين المبدعين .

يشار إلى أن الفيلم عرض ضمن فعاليات نادي سينما الشباب الذى يقيمه المركز القومي للسينما برئاسة السيناريست زينب عزيز بالتعاون مع قطاع صندوق التنمية الثقافية برئاسة د. فتحي عبد الوهاب، شهريا بقاعة سينما الهناجر بدار الأوبرا المصرية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى