مهزلة العقل البشري (1 – 3)
آراء حرة
ما زلت أرى أن الكاتب الجيد هو الذى تشعر بعد أن تقرأ له بأن ثمّة تغييرًا إلى الأفضل قد طرأ على عقلك ووجدانك، وتشعر أيضًا بعد قراءته أنك أصبحت إنسانًا جديدًا مختلفًا عما كنته قبل قراءته. وإذا صدق هذا المعيار على بعض المفكرين والكتّاب مرةً، فإنه يصدق على المفكر العراقى الكبير الدكتور على الوردي مرات ومرات.
فى تصديره لكتابه «مهزلة العقل البشري» الذى صدر عن دار كوفان، لندن، عام ١٩٩٤؛ يقول على الوردي: «أهدى هذا الكتاب إلى القرَّاء الذين يفهمون ما يقرأون؛ أما أولئك الذين يقرأون فى الكتاب ما هو فى أدمغتهم؛ فالعياذ بالله منهم».
كان قلم على الوردى أشبه بالمحراث الذى يشق الأذهان ويحفرها ويهيؤها للزرع الجديد، كانت أفكاره أشبه بمطرقة تقرع الرؤوس لتنبهها وتثير اهتمامها، وتنقلها من الخيال إلى الواقع، ومن الوهم إلى العلم، ومن الخرافة إلى الحقيقة.
يقول على الوردى إنه من الظلم حقًا أن نعاقب الناس على عقائدهم التى لُقنِّوا بها فى نشأتهم الاجتماعية الأولى. والفكرة السائدة لدى شعوب المنطقة العربية مبنية على أساس أن الإنسان يعتنق عقيدته بإرادته، وأنه يصل إليها عن طريق التفكير والتأمل. وهذا – فى رأى المؤلف – خطأ يؤدى إلى الظلم فى كثير من الأحيان. والواقع أن الإنسان يؤمن بعقيدته التى ورثها عن آبائه أولًا ثم يبدأ – فيما بعد – بالتفكير فيها، وفى أغلب الأوقات؛ يدور تفكيره حول تأييد تلك العقيدة. ومن النادر أن نجد شخصًا بدَّل عقيدته من جرَّاء تفكيره المجرد وحده. فلابد أن يكون هناك عوامل أخرى، نفسية واجتماعية، تدفعه إلى ذلك من حيث يدرى أو لا يدري. (دكتور على الوردي، مهزلة العقل البشري، دار كوفان، لندن، ١٩٩٤، ص ٤٣)
يصف القرآن الكريم عقول الناس بأنها مغلقة وأنها عمياء، ويؤكد ذلك فى كثير من آياته؛ إذ يقول: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» (سورة الحج – آية ٤٦) ويقصد القرآن بالقلوب العقول؛ كما يعرف ذلك كل متتبع لأساليب اللغة العربية. ويهيب القرآن بالناس، ويهتف بهم المرة بعد المرة قائلًا لهم: «أفلا تعقلون»، «أفلا تتفكرون»، «أفلا تبصرون». والناس تسمع هذا ولا تفهم. وهؤلاء الناس أنفسهم لم يكادوا يرون النبى منتصرًا تحف به هالة المجد والقوة حتى أقبلوا عليه من كل حدبٍ وصوب يعلنون دخولهم فى الدين الجديد، ويهتفون بملء أفواههم: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وكلما ازداد الإسلام انتصارًا ازدادوا به إيمانًا. حتى رأيناهم أخيرًا يضطهدون من يخرج عنه؛ بمثل ما كانوا يضطهدون مَنْ كان يدخل فيه أول الأمر. (المرجع السابق، الموضع نفسه)
يقول المؤلف: نرى المسلمين اليوم يذوبون حبًا بالنبى ومديحه فى كل حين. وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم وُلِدوا فى بيئة تقدِّس النبى محمدًا وتبجله. ولو أنه ظهر بينهم اليوم بمبادئه التى قاومه عليها أسلافهم؛ لما قصروا عن أسلافهم فى ذلك، فالناس كالناس والأيام واحدة كما قال الشاعر العربي.
يقول الدكتور على الوردى «قد يعتقد المسلمون اليوم أنهم لو كانوا يعيشون فى زمن الدعوة الإسلامية لدخلوا فيها حالما يسمعون بها. ولست أرى مغالطة أسخف من هذه المغالطة. يجب على المسلمين اليوم أن يحمدوا ربهم ألف مرة لأن الله لم يخلقهم فى تلك الفترة العصيبة. ولو أنهم خُلِقوا حينذاك لكانوا من طراز أبى جهل أو أبى سفيان أو أبى لهب، أو لكانوا من أتباعهم على أقل تقدير، ولرموا صاحب الدعوة بالحجارة وضحكوا عليه واستهزأوا بقرآنه ومعراجه».
يستطرد المؤلف فيقول: «تصور يا سيدى القارئ نفسك فى مكة إبان الدعوة الإسلامية، وأنت ترى رجلًا مستضعفًا يؤذيه الناس بالحجارة ويسخرون منه، ويقولون عنه أنه مجنون. وتصور نفسك أيضًا قد نشأت فى مكة مؤمنًا بما آمن به أباؤك من تقديس للأوثان، تتمسح بها تبركًا وتطلب منها العون والخير. ربتك أمك الحنون على هذا، وأنت قد اعتدت عليه منذ صغرك، فلا ترى شيئًا غيره، وأنت ترى أيضًا أن ذلك الرجل كان مكروهًا من أقربائك وأصحابك وأهل بلدتك وينسبون إليه كل نَقِيصَة ورذيلة. فماذا تفعل؟ أرجو أن تتروى طويلًا قبل أن تجيب عن هذا السؤال». (المرجع السابق، ص ٤٤)
إن ما وصف القرآن به عقول الناس يشبه إلى حد بعيد ما اكتشفه العلم الحديث من طبيعة العقل البشري. فالعقل البشرى مغلف بغلاف سميك لا تنفذ إليه الأدلة والبراهين إلا من خلال نطاق محدود جدًا، وهذا النطاق الذى لا تنفذ من خلاله الأدلة العقلية مؤلف من تقاليد البيئة التى ينشأ فيها الإنسان فى الغالب». وهذا ما أطلق عليه الدكتور على الوردى فى أحد كتبه السابقة «الإطار الفكري». (ص ٤٤)
قد يندهش المرء حين يرى خصمه لا يقتنع بالبرهان القوى الذى اقتنع هو به. وكثيرًا ما يجابهك الخصم بالسخرية اللاذعة حين يستمع إلى برهانك، فتحقد عليه ولعلك تتهمه باللؤم والمكابرة. ويجب أن لا تنسى أن خصمك يتهمك أنت أيضًا – فى قرارة نفسه – باللؤم والمكابرة. كل منكما مؤمن بما عنده – وكل حزب بما لديهم فرحون. كل القدماء يصفون الدليل القوى الواضح بأنه الشمس فى رابعة النهار. ونسوا أن الشمس نفسها على شدة وضوحها لا تصلح دليلًا كافيًا لدى الإنسان إذا كان أعمى. أو إذا كانت الشمس محجوبة عنه بغلاف سميك. (ص ٤٥)
كان المفكرون القدماء يتراشقون بالتهم والشتائم عندما ينشب الجدل بينهم. وكل فريق منهم يتهم خصمه بأنه يغمض عينيه عن رؤية الحق عمدًا. وكل منهم يدعى أنه صاحب الحق الأوحد دون الناس جميعًا. كأن ربك قد غرز حب الحق فى قلوب أفراد معدودين، وترك بقية الناس فى ضلال مبين.
ويحكى الوردي: إنه كان ذات يوم فى مجلس ضم جماعة من رجال الدين. وقد أجمع هؤلاء الرجال أثناء الحديث على أن سكان الأرض كلهم ملزمون بأن يبحثوا عن الدين الصحيح، فإذا وجدوه اعتنقوه حالًا. فكل إنسان فى نظر هؤلاء مجبور أن يسعى بنفسه، ويذهب سائحًا فى الأرض ليبحث عن الدين الحق. وحين قال لهم على الوردي: لماذا لم تسيحوا أنتم أيضًا فى الأرض سعيًا وراء الحق؟، أجابوه بدهشة بالغة: «لأن الدين الحق عندنا!».. إنهم يتخيلون أنهم وحدهم أصحاب الدين الحق من دون الناس. ونسوا أن كل ذى دين يؤمن بدينه كما يؤمنون هم بدينهم. فأينما توجهت فى أنحاء الأرض وجدت الناس فرحين بعقائدهم مطمئنين إليها، ويريدون من الأمم الأخرى أن تأتى إليهم لتأخذ منهم دين الحق الذى لا حق سواه. (ص ٤٥)
إننى أود أن أختتم هذا المقال بعبارة ذكرها الدكتور على الوردي، قال فيها: «لست أريد أن يرضى عنى جميع الناس، فرضا الناس غاية لا تُنَال، حسبى أن أفتح الباب للقرّاء كى يبحثوا ويناقشوا. والحقيقة هى فى الواقع بنت البحث والنقاش».
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس