د.عمرو ناصف يكتب: هكذا إنتصرت أمريكا..
– بعد فيديو الرئيس الأوكراني الفنان (فلودومير زيلينسكى) فى اليوم العشرين من الحرب على بلاده وتحديداً فى منتصف يوم الثلاثاء الخامس عشر من مارس والذى أعلن فيه علمه بإستحالة إلتحاق بلاده بحلف الناتو ( وهو المطلب الذى عليه قامت الحرب فى الأساس ) ، وبعد خطابه أمام البرلمان الكندى فى ذات اليوم وأمام الكونجرس الأمريكي فى اليوم التالى والذى لم يتطرق فيهما بل لم يذكر قط لفظ ( الناتو) ولو لمرة واحدة ، ومع إبداءه تراجعاً ملحوظاً فى تصريحاته ومرونة أكبر فى التفاوض مع الجانب الروسى خلال اليومين الماضيين ، يتضح الآن نجاح المخطط الأمريكي السياسى الإنتخابى الدعائي العميق ، الذى بدأ برفع الممثل الكوميدي على كرسى رئاسة بلاده فى مايو من العام ٢٠١٩ ، ثم تحويله – من خلال الحرب المقصودة – من كوميديان هزلى إلى بطل أسطوري أمام شعبه والعالم أجمع بما لديه من مواهب تمثيلية وفنيه إستطاع بها كسب تعاطف العالم مع بلاده حين زجت به أمريكا فى ذلك الصراع المحسوب تماماً مع روسيا ، وبمعاونة آله الإعلام الأمريكي المتميزة وفيديوهات (زيلينسكى) إلى العالم التى داوم عليها مرات يومياً وبذل فيها مجهوداً أكبر مما بذل فى إدارته للصراع مع الجانب الروسى ، يتضح لنا فى نهاية الأمر نجاح ذلك المخطط الأمريكي لهذة الحرب المفتعلة والتى إستخدمت فيها دميتها اللطيفة وحركتها عن بعد بحبال السياسة وأربطة الإعلام يعاونها جهود المنساقين الأوروبيين المؤيدين فى صمت ، و تتبلور لنا نتائج هذا المخطط حتى الآن فى نقاط صريحة واضحة ومباشرة نلحظها كالتالى :
– باعت أمريكا لأوكرانيا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام خلال تلك الحرب أكبر كمية من السلاح المتنوع والطائرات منذ حربها الأولى فى رحاب الخليج ، ولولا تلك العمليات العسكرية لأكلها الصدأ فى مخازن صحراءها الغربية ، من خلال أسلوب ( إفتعال المشكلات ) الذى دأبت عليه فى جولات عدة مع دول الشرق الأوسط بدءاً من أفغانستان مروراً بإيران والعراق ودول الربيع العربي وصولاً أوكرانيا ، والذى دائماً ما تبدأه بتعالى تصريحات العداء مع إحدى الدول ثم إفتعال المشكلات ثم فرض العقوبات ثم تقوم آله الإعلام بترديد كلمة ( الحرب ) ، فتهرع دول منطقة النزاع إلى شراء ماتيسر لها من السلاح الأمريكى ، ثم يعقبها …. هدوء تام .
– باعت الولايات المتحدة الأمريكية بترولها لأوروبا بأعلى سعر له منذ عقود ، بعد أن فرضت مقاطعة شاملة وحزمة من العقوبات الإقتصادية القوية على روسيا فكان لزاماً على أصدقاءها وحلفاءها الأوروبيين أن يوافقوها بل ويتبعوها فى ذلك ، مما فرض على القارة الأوروبية خلق مصادر جديدة للطاقة تحسباً لقطع الجانب الروسى إمداداته إليها من البترول والغاز الطبيعى ، فكان الخام الأمريكي هو البديل .
– باعت أمريكا قمحها بأعلى سعر له منذ سنوات بعد أن تسببت العقوبات الإقتصادية والحظر التجارى على روسيا فى عدم قدرة الأخيرة على تصريف ناتج قمحها ومخزونها السنوى منه كسابق العهد ، وأصبح القمح الأمريكى بديلاً وحيداً للقمح الروسى والأوكرانى الذى توقف تصديره لدول أفريقيا والشرق الأوسط بسبب الحرب والعقوبات .
– أوقفت أمريكا أعمال مد الخط الثانى من أنبوب الغاز الروسى _الألمانى ( نورد ستريم ٢ ) والذى كان مخططاً الإنتهاء منه نهاية هذا العام أو منتصف العام القادم على أسوأ تقدير ، لتظل ألمانيا وأوروبا حبيسة الوقود الأمريكي فقط ، مفسحة المجال أيضاً لإحدى حليفاتها من الخليجية ذات المخزون الكبير فى إمكانية تصدير غازها مسالاً لأوروبا ، مكافئة لها على حسن تعاونها معها عبر السنين العشر الفائتة .
– إختبرت أمريكا رد الفعل الصينى حيال الأزمات العسكرية فى منطقة نفوذها وموقفها من القرارات السياسية لمجلس الأمن والأمم المتحدة نحو الحلفاء والجيران ، خاصة الروسى منهم ، وبالأخص أمام تكتل أوروبى أمريكى كبير ، والذى أظهرت فيه الصين حالة من الإتزان من جانب ودعمها الضمنى للجانب الروسى من جانب آخر حتى وإن إلتزمت مبدأ الحياد .
– خلال شهر واحد أتخمت أمريكا دولة أوكرانيا بمليارات الدولارات من الديون ، سواء فى صورة أسلحة أو معونات أو نقود سائلة ، ويكفى أن يكون الإستعمار السياسى والعسكري الأمريكى لدولة على حدود روسيا مثل أوكرانيا هو خير وسيلة لسداد تلك الديون لاحقاً وعلى مر سنوات كثيرة قادمة .
– خلال هذة الحرب إستنزفت أمريكا دول أوروبا و روسيا إقتصادياً كأكبر تأثر إقتصادى لهم بعد الحرب العالمية الثانية وجائحة كورونا لتظل هى القطب الاقتصادى الوحيد المنافس للصين ، علاوة على ملايين اللاجئين الذين ملأت بهم ربوع القارة الأوروبية ممن سيزيد عبئاً إقتصادياً أكبر على القارة العجوز عما قريب .
– فى غفلة وإنشغال من الجميع مررت أمريكا إتفاقها النووى مع إيران – ذراعها الشرق أوسطى – كأحسن مايكون ، بإعطاءها ترخيصاً نووياً سهلاً يظهر أمام العالم كله بأنه أمر واقع وأن ليس بالإمكان خير مما كان ، جاعلة من إيران بؤرة تهديد نووية فى أحضان الحقل النووى الروسيا – الكورى الشمالي – الهندى .
– بعد سنوات من الضغط الأمريكي العنيف والمستمر على فنزويلا ، عادت ومنحتها قبلة الحياة بزيارة وفد أمريكى رفيع المستوى لها منذ أيام ، ووضعتها من جديد موضع الأصدقاء ، لترسخ تبعيتها المطلقة لها كدولة ترقد على أكبر احتياطى نفطى فى العالم ، وما كان لفنزويلا إلا الإنسياق إذا رغبت فى الحياة .
– بإعتناق الصمت المطبق ، وعبر سياسة الحياد ، ومم خلال مبدأ توخى الحذر والسلامة ، تأكدت أمريكا وروسيا وأوكرانيا وأوروبا والعالم أجمع من ثبات الدول العربية على نفس معدل التفاعل والأداء الذى تعتنقه منذ أواخر السبعينات .
.. ومع بادرة إنفراجة تلوح فى الأفق ، وبتغير الأوضاع يوماً تلو الآخر ، وساعة عقبل الساعة ، وفى ظل تعدد فصول المسرحية وتلون أدوار بطلها الأوكراني ، لا يبقى لنا وللعالم إلا أن ننتظر ونراقب ما سيأتى به الفصل الأخير ، وتنتهى به الحبكة الدرامية ، ويفرضه الواقع .