مدحه المتنبي وهجاه| كافور الإخشيدي.. حكاية العبد الذى حكم مصر 22 سنة
يرويها| عماد زعيتر
إنه “كافور الاخشيدي ذلك العبد الأسود الذى جاءوا به إلى مصر ليباع في سوق النخاسه ، فحكم البلاد وتربع على عرشها وجرت الأنهار من تحته.. ومدحه المتنبي ثم هجاه!
كان دميم الخلقه مشوه القدمين بطىء الخطى لكنه كان قوي البنيان مفتول العضلات .
وكان يتنقل من نخاس إلى آخر لقبح منظره ولزهد الناس فيه .
كان بصحبته عبد آخر سأله كافور : أي شيء تتمناه لنفسك فقال العبد أتمنى أن أُباع إلى طاهٍ وآكل ما تشتهيه نفسي فقال كافور وأنا أتمنى أن أكون حراً وأحكم هذه البلاد .
وبعد عناء نخاسه اشتراه من السوق تاجر زيت ب ١٨ دينار فسخره بأكتر من عمل وكلّفه بما لا يطيق ، وبعد فتره اشتراه محمود بن عباس الكاتب الذي علّمه القراءة والكتابه ، فبدأ يسترد عافية روحه ويستشعر انسانيته ، التي سلبها تاجر الزيت غليظ القلب الجافي ،
وها بدأ شخصيته تتشكل وظهر عليه النبوغ والفطنه .
كافور في حاشية الملك
أرسله سيده بهديه الى حاكم مصر محمد بن طغج الاخشيدي ، الذي انبهر به واشتراه وعلّمه فنون القتال ورشحه كضابط في الجيش .
أظهر كافور ولائه وإخلاصه لحاكم البلاد فأعتقه وبهذا تحققت أمنيته الاولي وعيّنه مربياً لأولاده وجعله من المقربين لمجلسه فتعلم في قصره كيف تُدار شئون البلاد ، وبعد فتره تولى زمام الجيش ولقّبه القاده بالأستاذ لسعة ثقافته ورجاحة عقله .
أظهر براعه وحنكه في الحملات العسكريه التي قادها الى سوريا والحجاز .
نجح بن طغج الاخشيدي في إعادة مصر لكنف الدوله العباسيه بعد ٣٧ سنه من استقلال الدوله الطولونيه بحكم مصر .
الخليفه العباسي الراضي بالله منح محمد بن طغج لقب الاخشيد ومعناه ” ملك الملوك ” وهو لقب أفغاني لملوك فرغانه الذي من نسلهم محمد بن طغج الذي وافته المنية سنة ٩٤٦ م ( خطوه نحو العرش ) ، وتولي الحكم من بعده ابنه انوجور الذي كان عمره ١٥ سنه حينها ، وكان كافور وصياً علي عرشه وكان هو الحاكم الفعلي للبلاد ، ومارس كل المهام وكانت بيده كل السلطات .
كانت مصر تتبع الخلافه العباسيه فكان خطباء المنابر يدعون للخليفه العباسي ولكافور ، وقد غاب انوجور تماماً عن المشهد السياسي فبدأ يفكر كيف يسترد حكم مصر ، فقرر الذهاب إلى الرمله في فلسطين ليجهز جيش و يحارب به كافور ويسترد عنوة حكم مصر ، وحتى لايساور كافور شك في نواياه أخبره أنه سيذهب لرحلة صيد ، ولكن والدته أرسلت اليه وطلبت منه أن يتراجع عن الفكره ، حيث تجهيز الجيوش يحتاج إلى مال كثير ورجال مخلصين وأرسلت في نفس الوقت إلى كافور وأخبرته بغضب ابنها لاقصائه من الحكم ، فأرسل اليه كافور وأرضاه وزاد له عطائه من بيت المال .Enter
أصابع الاتهام تشير لكافور
مكث انوجور بعدها قليلاً ثم وافته المنية سنة ٩٦٠ م عن عمر يناهز ٣٠ سنه دون علة ، وهنا لمّح بعض المؤرخين أن كافور دس له السم في الطعام ، وتولي الحكم من بعده شقيقه الاصغر علي أبو الحسن الذي كان في وضع أشبه بالاقامه الجبريه .
لم يسمح له كافور بالخروج من قصره الا بصحبته . بدأ الضعف يسري في كيان الدوله العباسيه وبدأت دولة الفاطميين في المغرب تشتد وتتوهج ، وتزداد مطامعها في حكم مصر حتي أن جنود المعز لدين الله الفاطمي قالوا : ” لولا الحجر الاسود لملكنا مصر ” وكانوا يقصدون بالحجر الأسود كافور الاخشيدي .
وكان كافور يضع توازنات في علاقته بالدولتين حيث كان الخطباء يدعون للخليفه العباسي في خطبة الجمعه ، ومن ناحيه أخرى ترك المجال لدعاة المذهب الشيعي وسمح لهم بنشر مذهبهم في طول البلاد وعرضها .
نهض كافور بالحياه الاقتصادية في مصر ونشطت التجاره وزاد عطاء الناس ، حتى أن الاغنياء لم يجدوا من يقبل منهم زكاة أموالهم فاخبروا كافور فطلب منهم أن يبنوا المساجد ويتخذوا لها الاوقاف .
كافور يشيد حضاره
اهتم كافور ببناء البساتين العامه والمستشفيات ، واهتم بتسليح الجيش وعدته وعتاده حتي بلغ عدد الجنود ٤٠٠ ألف جندي في امارة مصر والشام .
أنشا كافور دار لصناعة السفن بساحل مدينة الفسطاط ، وكان يرسل إلى الحرمين في كل سنه مع الحجاج مال وكسوه وطعام . وعى كافور لمكانة الادباء والشعراء ومدي تاثيرهم في الناس ، فأغدق عليهم بالمال وأجزل لهم العطايا وقربهم إليه ، واستخدمهم أوتاد لتعضيد حكمه ومن ناحيته كان يقضى حوائج الناس وينظر بنفسه في المظالم ، فاستمال قلوب الشعب إليه .
وصفه المؤرخون بانه كان حليماً جواداً لايشبه عقله عقول الخدام، لم تأخذه العزة بالحكم فكان شخصيه متواضعه ، يمشي بموكبه بين عامة الناس يسالهم عن أحوالهم ، وكان الخطباء يدعون له على منابر مكة والمدينه والشام الي جانب مصر .
وكان صاحب عقل ودرايه و عُرف بالحكمه والحزم . كان علي أبو الحسن الذي يحكم مصر بمرسوم خلافي لم يتعدى حدود رقعته ، قد انغمس في حياة اللهو وبعد فتره انقطع للعباده ، ولكن أخذتة نزعة الملك وحُبّ الرياسه وطالب كافور بأن يترك له حكم البلاد ، فلقي نفس مصير شقيقه ومات بالسُمّ وأصابع الاتهام اشارت للمره التانيه لكافور .
كافور يحكم البلاد
ورد خطاب من الخليفه العباسي بتولية كافور حكم مصر وهنا تحققت رغبته التانيه عبد دخل البلاد مقيد بالسلاسل ليباع في سوق العبيد فخضعت له أرض مصر التي تعدل ولايتها خلافه حدث تاريخي لم يسبق له مثيل .
أنتهز كافور الجفاء بين المتنبي الشاعر وسيف الدوله في حلب فارسل كافور للمتنبي ليفد إليه ، فأتاه وأغدق عليه بالمال وكان في نفس كل منهما حاجه لصاحبه ، احتاج كافور لمن يُخلّد ذكره بين الناس ، ومن لها غير المتنبي الذي كان في حاجة إلي ماله وضيعاته ، فمدحه وأثني عليه حتى لما ضرب زلزال طول البلاد أنشده المتنبي بتملق فج ” مازُلزلت مصر من كيد ألم بها ولكنها رقصت من عدلكم طرباً ” .
ولكن طموح المتنبي الشاعر تخطى مرحلة المال والضيعات ورغب في الحكم ، وطلب من كافور أن يجعله والياً على أحد الاقاليم ، لكنّ كافور فاجئه برفضه لأن المتنبي ليس رجل سياسه ( قتلته كلمات المتنبي ) غضب المتنبي وهرب من مصر في ليلة عيد الاضحي في الوقت الذي كان كافور قد شغل نفسه بتوزيع الاضاحي على الفقراء فهجاه بشعره ” لا تشتر العبد الا والعصا معه .. إن العبيد لأنجاس مناكيد ”
وكأن أبيات المتنبي قد هزمته فمات بعد ولايته الفعليه بسنتين و٤ أشهر .
عذراً لم أتعرض للحديث عن حياة كافور الاجتماعيه فقد كان مسلوب الرجوله كحال غيره من العبيد . وافته المنيه سنة ٩٦٨ م ودُفن في فلسطين . ثم سقطت دولة الاخشيد من بعده وبدأ الحكم الفاطمي لمصر .
ولكن يُحسب لكافور أنه حافظ على بقاء الدوله الاخشيديه ، وكان يخطط ويدبر أمورها لمدة ٢١ سنه ، وكانت حياة الناس في ولايته يفوح منها شذى المسك والعنبر ، ولا عجب فالذي كان يحكمهم كافور .