محمود البرلسى يكتب | السياسة الجنائية و الإصلاح
إن هدف السياسة الإصلاحيه للتشريع الجنائي حسب ما يقوله المفكر مارك أنسل صاحب نظرية الدفاع الاجتماعي :
“هي الوصول إلى أفضل صيغة لقواعد القانون الوضعي وتوجيه كل من المشرع الذي يضع القانون الوضعي والقاضي الذي يقوم بتطبيقه والإدارة العقابية المكلفة بتنفيذ ما يقضي به القضاء”.
لذلك فإننا نبين ونقول أن السياسة الجنائية تعكس المصالح الواجب حمايتها في الدولة، والقانون هو التى تنشئ الحق ، وتحمي المصلحة الجديرة بالحماية .
فالسياسة الجنائية هي السياسة التشريعية والإصلاحات المتلاحقة في مجال القانون الجنائي و توجه المشرع في اختياره للمصلحة الواجب حمايتها الاتجاه الواجب اتباعه.
لهذا فقد تأثرت السياسة الجنائية بالفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي لكل دولة والسلطة القابضة على الحكم فيها.
ولكل دوله لها أن تضع سياسة ، وتحددها للتجريم بحيث تستهدف من ورائها حماية المصالح الاجتماعية والفردية من الاعتداء عليها ، بل ولها أن تبين القيم والسلوكيات التي تناسب مجتمعاتها وفقا للدين والعرف السائدين فتعمل على حمايتها والحفاظ عليها وإلحاق العقاب لكل من ينتهكها
ومن هنا يأتي دور الدولة ووظيفتها في وضع الآليات اللازمه من التدابير الاحترازية والعقابيه لحماية المصالح الاجتماعية التي تسود المجتمع فتختار العقوبه المناسبه والأكثر مساساً لهذه المصالح.
فلها أن تضع العقوبه المناسبه لانتهاك قد ترى الدوله فيه أنه يعد مساسا ذو خطورة شديده قد تؤدي إلى إخلال جسيم في مركز من المراكز القانونيه المستقره أضفى عليه الدستور الضمانات و الحمايه الكامله
وإذا ما تأملنا التطور التاريخي للمصالح التي تعد محلا للحمايه من قبل السياسه الجنائية ، فإننا سنجدها تتغير بتغير الأنظمه المجتمعية ومقومات حياتها، فالتغيرات الاجتماعية تعد المتغير الثابت مهما طال الزمن ، فما هو مقبول في مجتمعاتنا يمكن الا يكون في مجتمعات اخري…
وعليه فان السياسة العقابية تضع المبادئ الأساسية التي يتوقف عليها نوعية العقوبات من حيث التطبيق والتنفيذ، وهذه النوعيه من العقوبات هي المكمله لمواد التجريم وهذا الأخير لا يقوم وحده بدون العقوبة، ويستأثر به المشرع، فهما يعدا بمثابة وجهي لعملة واحده كل منها لا ينفرد عن الآخر. ولذا سماه البعض بالتفريد القانوني.
أما تطبيق العقوبات وتنفيذها فيتم في مرحلتين متتاليتين هما مرحلة التقاضي أو ما تعرف – بالخصومه الفضائيه – ومرحلة تنفيذ العقوبه المناسبه ، ولهذا ربطت كافة التشريعات الجنائية إتيان الجريمة بتطبيق العقوبة، إذ ان القاعدة القانونيه تقول انه لا جريمة ولا عقوبة الا بنص قانوني أو بناء على قانون تطبيقا لمبدأ الشرعية.
وتوضح السياسة الجنائية المتبعة في كل دولة الهدف من ورائها في مرورها خلال السلطات الثلاث التشريعية والقضائية، والتنفيذية مع الأخذ بمقتضى مبدأ الفصل بين السلطات لتحقيق الهدف المنشود، فتدور معها السياسة العقابية وفق محاور وهي:
أولا: من حيث التشريع:
وفيه بعد تحديد مادة الجرم يتم معه تحديد مادة العقوبه ، إذ لا جريمة بدون عقوبة، ولذلك فان العقوبة لا تنشأ اساسا ولا تاخذ وصفها القانوني المنصوص عليه إلا إذا قوبلت بالجرم المناسب لها فتضمن اللوم الأخلاقي اللازم في إلحاق الردع الكافي للجاني إما في حريته أو ماله أو كلاهما معا وفق مبدأ المشروعية.
ثانياً: من حيث الخصومه القضائية:
وهذه الخصومه ينبغي أن تتناول ركيزتين إحداها موضوعيه تتمثل في المباديء القانونيه والأسس الواجب اتباعها حين تناول العقوبه اللازمه وفق التكييف المناسب والمنصوص عليه، والأخرى إجرائيه يتم من خلالها إثبات حق الدولة في العقاب ولكن بشرط عدم المساس بالحريات التي كفلها الدستور والإجراءات الصحيحه التي تضمن تطبيق العقوبات وتنفيذها، ويتمثل دور القضاء في تطبيق القواعد القانونية (باسم الشعب) بعد التأكد من الوقائع بواسطة وسائل الإثبات المنظمة في قانون العقوبات.
ويعتبر القاضي الجنائي وحده المسؤول عن اختيار العقوبة وفق الإجراءات المنظمة للخصومة الجنائية، هدفه في ذلك إثبات حق الدولة في العقاب وتطبيق العقوبات بوسائل عادلة، فالقاضي هنا يكمن دوره في تطبيق القانون تحت رقابة سلطة عليا متمثلة في المجلس الأعلى للقضاء، حتى لا يتعسف في استعمال الحق تحت ذريعة السلطة التقديرية للقضاء، وهذه الرقابة العليا من شأنها أن تعطي ضمانة هامة لحماية المتقاضين من التجاوزات والتعسفات القضائية.
فالسياسة الجنائية المعاصرة أخذت بمبدأ ضرورة فحص شخصية المجرم وبحث تاريخه الإجرامي لوضع التدابير الملائمة وفقا لدرجة خطورته واهتمت بتخصص القاضي للوصول إلى غاية حقوق الإنسان وتوفير الضمانات القانونية خلال جميع مراحل سير الدعوى الجنائيه سواء تعلق الأمر بالإجراءات أو الموضوع .
ثالثاً: من حيث التنفيذ:
ويتم ذلك التنفيذ عبر شقين، أحدهما موضوعي يتناول الأسس الواجب مراعاتها عند التنفيذ وفق مباديء عامه تتعلق بحقوق الإنسان وحمايته ، والأخر إجرائيا، يضع الإجراءات الواجب إتباعها لتنفيذ العقوبات وفقا لهذه الأسس ضمانا أساسيا لتجنب اي انتهاك يتعارض مع إنسانيته وآدميته، وفي تلك المرحلة يتحقق الهدف من هذا الاختيار (العقوبة)، ولا يمكن تحقيقه ما لم تعمل السلطة التنفيذية على تحقيقه..
وأخيرا وليس آخرا إن تنفيذ العقاب ليس الهدف منه الإيلام والتشفي والانتقام من الجاني، بل الهدف منه لا يعدو سوى أنه يتضمن لوما أخلاقيا قسريا لإعادة تأهيله وإصلاح شأنه وإدماجه في المجتمع مرة أخرى وإبعاده عن أي ممارسات إجراميه تتنافى مع النظام العام..
محمود البرلسى
محامٍ ومدير مركز
الشرق للدراسات القانونية